إحياء علوم الدين

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
كتاب (إحياء علوم الدين)
لأبي حامد الغزالي

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كتاب (إحياء علوم الدين) من الكتب التي لقيت عناية كبيرة لدى أهل العلم، فهو كتاب جامع في الأخلاق والسلوك والمواعظ، ومؤلفه أبو حامد محمد الطوسي الغزالي المتوفي سنة (505هـ) الإمام صاحب التصانيف الكثيرة في كثير من الفنون: الفقه، والأصول، والفلسفة، والكلام، والتصوف.
و كتابه (إحياء علوم الدين) تباينت تجاهه الآراء، فمدحه قوم حتى غلو في مدحه، وقالوا: (من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء). وذمه قوم حتى أفتوا بحرقه ومنعه.
وسبب الاختلاف في كتاب (الإحياء) أن فيه نفعاً كثيراً، وفيه من الطامات والبلايا ما يمنع من قراءته، إلا ممن له خبرة ودراية بعقائد الصوفية والحلولية والفلاسفة، ممن تحصن بعقيدة السلف الصالح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة ، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًّا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين ، وقد أنكر أئمة الدين على أبى حامد هذا في كتبه، وقالوا: مَرَّضَهُ (الشفاء)- يعنى شفاء ابن سينا في الفلسفة- وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترَّهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب، الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب، ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يردُّ منه ، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه). انتهى. (مجموع الفتاوى) (10/551).
وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (19/339): (أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب، ورسوم، وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علما نافعاً).
ومما يؤخذ على الكتاب أيضاً ذكره لبعض شطحات المتصوفة وأغاليطهم, كما أنه يتضمن بعض المخالفات في العقائد والعبادات والأخلاق.
وقد اختصره غير واحد من أهل العلم حرصاً على أن يستفاد مما فيه من خير بحذف ما سواه، ومنهم ابن الجوزي الذي حذف الأحاديث الموضوعة والواهية، وعمد إلى ما لا طائل من ورائه مما احتوى على بعض المخالفات، فحذفه، وسمى كتابه (منهاج القاصدين) وقال في مقدمته: (فاعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء وأقلها الأحاديث الموضوعة، والموقوفة قد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها....) ثم يقول: (وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه، وندب إلى العمل به ما لا حاصل له، من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد إلى غير ذلك....). ثم قال: (وسأكتب لك كتابا يخلو عن مفاسده ولا يخل بفوائده). انتهى. ثم اختصر المقدسي (منهاج القاصدين) هذا في كتابه (مختصر منهاج القاصدين)، وهناك مختصرات أخرى.
ولسنا بصدد الكلام عن الكتاب نفسه، فقد تكلم عنه العلماء قديماً وحديثاً، وسبق ذكر طرف من كلامهم، ويمكن الرجوع لكتاب (وقفات مع كتاب إحياء علوم الدين) للشيخ عبد الرحمن دمشقيه، ففيه تفصيل لمن أراد الاستزادة.
وإنما الذي يعنينا هو الكلام عن إحدى طبعات الكتاب التي ظهرت مؤخراً، بمناسبة مرور تسعمائة سنة على وفاة الغزالي رحمه الله، والتي استغرق العمل فيها سبع سنين متواصلة، وهي طبعة دار المنهاج بجدة، والتي قام بتحقيقها وضبطها وتوثيقها ومراجعتها لجنة علمية بمركز دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي، وتعتبر هذه الطبعة من أفضل طبعات الكتاب إن لم تكن أفضلها, فهي محقَّقة على نحو عشرين نسخة خطية, مضبوطة بالحركات الإعرابية, معزوة الأقوال والنصوص المنقولة, مخرجة الأحاديث والآثار، مع شرح بعض الكلمات الغريبة الغامضة، ووقعت هذه الطبعة في عشرة مجلدات، طبعت طباعة فاخرة ملونة، وأخرجت إخراجاً فنيًّا جيدًا، أُفْرِدَ مجلد كامل من الكتاب بمقدمات، تبيِّن منهج المحققين في تحقيق الكتاب، وسيرهم في إخراجه, مع إضافة كتابين آخرين في المقدمة هما: ((الإملاء على مشكل الإحياء)) للغزالي، وتم تحقيقه على سبع نسخ خطية، و كتاب ((تعريف الأحياء بفضائل الإحياء)) للعيدروس وتم تحقيقه على ثلاث نسخ خطية .
ويؤخذ على هذه الطبعة عدة أمور منها:

- عدم الإشارة في المقدمة إلى ما وقع في الكتاب من مخالفات، والإطناب في عبارات المدح والثناء على الكتاب، والاكتفاء من كلام العلماء بما يدل على فضله ومكانته، دون ما وُجِّه إليه من نقد، ليس ذلك فقط بل مهاجمة من انتقد كتاب (الإحياء).
ولا شك أن الغزالي له مكانة ومنزلة لا تخفى على أحد، ولا يمنع ذلك من بيان ما وقع فيه من أخطاء ومخالفات، لاسيما إذا كانت تتعلق بالعقيدة والمنهج، فمن ذا الذي ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط، واللجنة العلمية التي حققت الكتاب تكلفت في رد ما استدرك على المؤلف، حتى مما اتفق عليه جمع من العلماء، ومما صرح به هو نفسه، من قلة بضاعته في علم الحديث، حيث قال: (بضاعتي في علم الحديث مزجاة). لذا شُحِن كتابه بالضعيف والموضوع، لكن في المقدمة حصل التكلف في حمل كلامه السابق على التواضع، وعلى أن الصحيح أضعاف أضعاف الضعيف ، وأنه (تسربت بعض الأحاديث الضعيفة وقليل جدًّا دونها في فضائل الأعمال) ويكفي في رد هذا الكلام أن يطالعوا ما ذكره السبكي من الأحاديث التي لم يجد لها إسنادا فقط دون ذكر الموضوع أو الضعيف، ثم ما ذَكَرَتْه اللجنة في المقدمة في ترجمته أن خاتمة أمره كانت بإقباله على الحديث النبوي كالبخاري ومسلم وغيرهما.
- عدم التعليق على الأحاديث والتي منها الضعيف والموضوع إلا أحيانا، معتمدين على كتاب العراقي واستدراكات ابن السبكي والزبيدي.
ومن الأحاديث التي تركوا بيان ضعفها- على سبيل المثال- الأحاديث التي سردها الغزالي في العقل، ومنها حديث ((ما خلق الله خلقا أكرم عليه من العقل))، وحديث ((إذا تقرب الناس بأبواب البر والأعمال الصالحة فتقرب أنت بعقلك)). وذكر بعدهما أحاديث أخرى في العقل، واكتفى المحققون فيها بالعزو فقط دون إشارة إلى ضعفها بل وضعها، مع أن أحاديث العقل كلها كذب، لا يصح منها شيء، كما قرر ذلك غير واحد من أهل العلم، قال ابن القيم: (أحاديث العقل كلها كذب). ثم إنه قد تمت الإشارة في المقدمة أنه سيتم الاعتماد على كتاب العراقي، فأين أحكام العراقي على هذه الأحاديث بالضعف، ولماذا لم تنقل؟ وهل يكفي فقط تخريج الحديث بعزوه دون بيان حكمه؟ وكأنهم خشوا لو فعلوا ذلك لظهر للقارئ كمُّ الأحاديث الضعيفة في (الإحياء).
- ترك التنبيه على المخالفات العقدية والسلوكية وعدم التعليق عليها، وأحيانا يُعلَّق عليها بما يؤيدها.
ونذكر على سبيل المثال: تأويل الغزالي لبعض الصفات، كما في الاستواء على العرش، قال الغزالي بعد أن نزه الله عن اختصاصه بالجهات، ومنها جهة العلو، يقول (1/392): (ولأنه لو كان فوق العالم لكان محاذيا له، وكل محاذ لجسم فإما أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر، وكل ذلك يحوج إلى مقدر، ويتعالى عنه الخالق الواحد المدبر. فأما رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء، وفيه أيضا إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء، تنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء، فإنه تعالى فوق كل موجود بالقهر والاستيلاء). فيعلق المحققون بقولهم : (وانظر للمؤلف رحمه الله لطيفة في سر التوجه بالدعاء إلى السماء في (الاقتصاد) (ص 114)، وسبب اختيار المصنف لصفة القهر والاستيلاء بالذات كون هذه الصفة محكية في كتاب الله بحقه سبحانه، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام : 18]. وقال سبحانه : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] .
ثم يقول الغزالي عن صفة الاستواء (1/392): (العلم بأنه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراده تعالى بالاستواء، وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث، وهو الذي أريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء، كما قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق ***** من غير سيف ودم مهراق.

ويعلق المحققون على قوله: (بطريق القهر والاستيلاء) (1/392) بما يؤيد هذا القول، فيقولون: (كما قال المؤلف في (الاقتصاد) (ص 126)، ولذلك قال بعض السلف وهو سفيان الثوري: أفهم من قوله {استوى على العرش} ما فُهم من قوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان}.
ولما ذكر الإمام الغزالي حديث استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه والاستغفار لها، فأذن له بالزيارة، ولم يؤذن له في الاستغفار، علَّق المحققون بقولهم (9/ 442) في حاشية (1): (وقد ألف العلماء الكثير من المصنفات في تحقيق نجاة الأبوين الكريمين، ونجاة آباء المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين ماتوا في فترة الجاهلية، ولم تبلغهم الدعوة، وأثبتوا أنهم من أهل الجنة، وأقاموا على ذلك الأدلة الناصعة والبراهين الساطعة، فلتراجع).
إذاً فهل أخطأ الغزالي عندما أورد هذا الحديث، ولطالما نافح عنه المحققون، مع الإيهام أن مسألة النجاة عليها من الأدلة الناصعة والبراهين الساطعة، والعجيب أن المحققين لم يقتصروا على نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل ذهبوا إلى نجاة آباء النبي صلى الله عليه وسلم الذين ماتوا في الجاهلية، ولا شك أن معتمدهم في ذلك الأحاديث الضعيفة المخالفة لما ورد في الصحيح، من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أبي وأباك في النار). وحديث عدم الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه. وقد بوب النووي في شرحه لصحيح مسلم (باب : بيان أن من مات على الكفر فهو في النار ، ولا تناله شفاعته ، ولا تنفعه قرابة المقربين) وذكر تحته حديث (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) يقول الحافظ ابن كثير: (وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصمَّ يمتحنون في العرصات يوم القيامة؛ لأنه سيكون منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء- أي الذين أخبر عنهم النبي- من جملة من لا يجيب، فلا منافاة) (البداية والنهاية) (2/342).
بل نقل الملا علي القاري الإجماع على عدم نجاتهما في رسالة (أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام) (ص84) فقال: (وأما الإجماع فقد اتفق السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على ذلك، من غير إظهار خلافٍ لما هُنالك، والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق، سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق).
فهذه نماذج تبين المنهج الذي سلكه المحققون في تحقيق الكتاب، وأنه منهج خالف مذهب أهل السنة والجماعة، لا بالسكوت عن المخالفات التي وقع فيها الغزالي رحمه الله وعدم التعليق عليها فحسب، بل أيضاً بتقرير ما يذهب إليه وتأييده، فينبغي قراءة هذه الطبعة بحذر، والاستعانة بأحد الكتب التي بينت ما وقع في الكتاب من مآخذ، ولا ينصح بها للمبتدئين الذين لم يتمكنوا من معرفة عقيدة أهل السنة والجماعة، وشبهات المتكلمين، ومخالفات الصوفية، بل ينصحون باقتناء أحد مختصرات (الإحياء) كـ(مختصر منهاج القاصدين)، أما طالب العلم المتمكن فهذه الطبعة أفضل له مما سبقها، والله أعلم.