مقال رائع حول تاريخ قفصة بصفة عامة و حول الحالة البائسة للترميل بصفة خاصة و كيف تم نقل حجارته إلى المنستير. مقال بقلم السيدة "سميرة خياري كشو" أنصحكم بقراءته كاملا.
===================================================

"الترميل" ...وللاّ العوينة ...
وجيعة قفصة المظلومة

حاكمة قرطاج ...إغتالت العيون بسبب كنوز العثمانيين

قبصة _الشروق- كتبت سميرة الخياري الكشو


جدران عالية لمعلم هو بيزنطي عمره 576 عاما اغتالت أجزاءا منه الحرب العالمية الثانية ..ونهبت حجارته وكنوزه بعد الاستقلال المزعوم ..عايش نكبات العصر الحديث في مدينة أكد التاريخ أنها ولدت قبله ..وقبل ميلاد المسيح ب8 ألاف عام ..
"قفصة" اليوم العصيّة على الخضوع ..هي نفسها "قبصة" في عصر ما قبل التاريخ ..التي تساوي في جبروتها قرطاج في العصر القديم ..وتحتل مكانة القيروان في العصر الوسيط ..مدينة غير كل المدن ..أنجبت وما تزال... رجالا يولدون عظماء ..أكد المؤرخون انهم هم من رجالات المدينة القفصية الذين صنعوا التاريخ باوروبا ..فحملت "أورياك" المدينة الفرنسية إسم الطور " الأورنياكي " الذي هو في الحقيقة يقابل الطور القفصي عند التونسيين ..
تلك هي قفصة ..السابقة للتاريخ ..والسبّاقة للتحرّر.. قفصة التي تتداخل فيها الجبال والمنخفضات مع المجال الشبه الصحراوي ...فتحتار في تفاصيلها وثناياها ..لماذا هي مظلومة ؟
قوتها في عيون مياهها التي تحمل أسماء الأنهج والأزقة بالمدينة العربي ... .من عين المطوية...وعين بوسعد ..وعين بو البغال.الى عيون وادي الباي والبرج مرورا بعين باياش والمهدي والشفاء ....

الصمود



هذه عيون قفصة...التي بقيت أحرف تحتل ذاكرة المدينة . خلال العشرين عاما الماضية .و تعرضت للاغتيال أكثر من مرّة وجففت منابعها عمدا كما جففوا العقول .....حكمها أكثر من إمبراطور وقائد ..وتعرضت للغزو والعصيان والحكم العسكري المباشر ..قاومت وصمدت ..فخلّدتها الأسطورة التي لا تجدها في كتبنا المدرسية ..فنسب تأسيسها الى الإله " أليي" أو الفينيقي "هرقلا" لكن خيوط الأسطورة تمسك بطائر الفينيق ..لتراه مع المغيب ..ممزوجا بلون النار التي تلتهمه فيختلط لون الصحراء بالسماء ......في حركات أشبه برقصة الموت لكنه يولد من جديد أشدّ قوة وصمود .
وجع الذاكرة
هكذا تقدم المدينة المظلومة نفسها ..تقترب شيئا فشيئا من ذاكرة السور الكبير ..فتعجز عن التعبير ...كيف يمكن للتاريخ أن يغتال بحفنة إسمنت ؟ كيف يمكن أن نوئد عيون الماء بكومة تراب في مهمة خيالية قيل يوما أنها عملية ترميم بحثا عن كنوز العثمانيين .
تقترب شيئا فشيئا من باب حديدي يشبه السجن الكبير المناقض في أعمدته تاريخ الحجارة تستسلم الى درجات السلم الصخري ..فترتطم الذاكرة بالوجع
..وجع النسيان ..وجع الإهمال ..لتاريخ عظيم ..حمامات رومانية
ترميل اليهود ..ترميل العرب ..ترميل العرائس .....شيّدت في القرن الثاني قبل الميلاد ..في كل نقشة حجر ..تسمع خرير المياه كما تستمع الى اصوات من عبروا قبل عقود ...نسوة ..أطفال ..قهقهات ..بكاء رضيع ...الترميل ذاكرة الوجيعة في قفصة ..لم يسجّل تفاصيلها الا من جاوروا عقدهم الخامس ..فترى دمعة عصيّة على مغادرة بؤبؤ العين .."الترميل" او "الترمين " تقول الحجارة أنها رومانية بنقوش" هيروغليفية "...تحت البرج حيث عيون المياه السحرية التي تعبر الارض في غير جلبة بطريقة لم يتمكن الكاشفون من فضح أسرارها ...فقط أن هذا الماء قادم من الاّنهاية يغادر اسفل البرج الى الحمامات الثلاث الأول المخصص للنساء والاطفال" الى الحمام الثاني المخصص للرجال حيث للاّ العوينة قبل أن يعبر الحمام الثالث الذي لا يوجد به منبع ماء وكان عبر التاريخ حماما لليهود والأرمن ممن جاؤوا بعد الحرب العالمية الثانية .الى الواحات المجاورة .
أنثى ...لكنها ثرثارة
حمامات رومانية عمرها من عمر العهد الروماني الذي عبر قفصة صانعة التاريخ ...تدخلها اليوم ..فتنظر يمنة ويسرة الى الحجارة ..وما تبقى من أصوات الذاكرة ..فتغمض عينيك لترى الفرح ..ولتسمع خرير المياه وضحكات الاغراء اذ قيل يوما أن إحدى معابر الماء كانت وسيلة من وسائل المغازلة ..شأنها شأن الترميل الذي كان الذهاب إليه عنوان عشق وهيام .
هذا هو "ترميل" الأمس... مازال شامخا.. ما زالت أجزاء من الحجارة تتحدث وتثرثر عن ما عاشته في ألاف السنين لكن في صمت ...الترميل اليوم ...جف ماؤه عمدا بعد ان تمت عملية اغتياله قسرا يؤكد أحد أبنائه انه في أوائل التسعينات حل ركب من الحفريات غط السور في تاريخ مازال يذكره وهو طفل قبل عشرين عاما وانتشر خبر ترميم السور لدى الأهالي كان العنوان سارا للجميع لكن عبث الأطفال دفعهم للتسلل إلى الداخل عبر ممر سري أكد انه تحت قاع السور يربط بينه وبين إحدى الواحات كان سابقا ملاذا للاطفال للمرح ...يومها شاهدوا رقعة كبيرة جدا في الارض محفورة الى القاع عبر الجرافات المحجوبة عن الرؤيا بفعل واجهات الاشغال ....تقول الحكايات المخفية سابقا عن النشر أن حاكمة قرطاج في القرن الواحد والعشرين كانت تبحث عن الكنوز العثمانية ثم تم ردم تلك الرقعة بجانب السور المحاذي للحمامات فتحول اليوم الى مصبّ للفضلات وانقطع من يومها الماء نهائيا عن البرج ...
وجيعة" قبصة "
حمام النساء " ترميل العرائس"...لم يبقى منه الا اليابسة واكوام الاوساخ وبقايا علب "السلتيا "المحلية والقوارير البلاستيكية اذ تحول الى ملاذ للسكارى أخر الليل في حين علقت الاعمدة الحديدية في حمام الرجال لاعمال الصيانة ....
فبقيت" للاّ العوينة " عين الماء السحرية التي كانت تمنح المرأة جمالا قيل أنه لا مثيل له حين تستحم في مياهه ...ملطخة بالايادي المخضّبة في الحناء ...اذ أنه المكان الوحيد الذي تخرج منه العروس القفصية ليستقبلها عروسها في الصخرة القريبة ..." أصبحت اليوم مسبحا بلديا " .

من هنا تتوالد الحكايات والروايات في تاريخ "الترميل " الذي رافق كل الصبايا القفصيات قبل عقود ...لكن حين تدخله اليوم... تصطدم بعملية الترميم التي أخفت نقوش الحجر بل وحولت تلك الصورة إلى مجرد حائط رطب بلون الرمال ...كادت تدمع عيناه وهو يراقب الجدران قائلا" : "حتى عملية الترميم هي اغتيال جديد للتاريخ فهل يعقل أن نرممّ الصخور بجعلها حائط بفعل" ليقة صبّة " وهل يعقل أن يرمّم التاريخ عامل بناء ؟؟" هكذا علّق ابن لؤلؤة الصحراء وهو يغادر المكان ...ملقيا خلفه بالكثير من التصريحات والتلميحات بنبرة فيها من اللّوم الشيء الكثير ...:" نحن قوم لا ننسى ...نصف السور تم نقله لبناء سور المنستير ...وتلك الحجرة الكبيرة المنقوشة باللغة "الهيروغليفية ".نقلوها هي الأخرى ..تبين وأنها نقشت أحرف الذاكرة في كلمات ..."هذا بلد التحقيق والتدقيق " ...
عيون الماء تحت القاع ...سرّ قفصة الذي دفنوه عن أعين المؤرخين ....لسنوات طويلة ...لكنها صامدة ...وهي تدرك جيدا أنها مظلومة ...لكنها تعلم أن انصافها قادم لا محالة لتحتل المكانة التي تستحقها فهي مدينة ولدت التاريخ من حبّات ترابها