مات التجمع.. عاش التجمع!

بقلم: الأسعد السميري - حينما تنتفض عنقاء الدكتاتورية من تحت رماد الثورة لتصفق بجناحيها الرهيبين في وجوهنا، وحينما تنبعث الروح في جثة" فرانكشتاين" لتعيده إلى الوجود من جديد كائنا مشوّها يصارع من أجل حياة مستحيلة،

وحينما يتحول الانتهازيون والمتطفلون على الثورة إلى "ثوّار" مفترضين يتكلمون باسمها وحماة لها يتطاولون في البنيان؛ عندها يصبح أي حديث عن الثورة وعن الانتقال الديمقراطي ضربا من العبث ومن اللغو السياسي الذي لا يتعدى حدود الترويح عن القلب المكلوم.

لقد خلنا بعد 14 جانفي أن الطريق قد أضحى سالكا أمامنا لبناء ديمقراطيتنا الوليدة والتطلع نحو المستقبل المشرق؛ لكن يبدو أن "ثقافة" الاستبداد لا تزال مصرة على الكمون في لا وعينا وفي سلوكنا ولو بأشكال وتمظهرات مستحدثة.

ونستطيع اليوم أن نقول دون تردد إن روح "التجمع" لم تمت بل تم استنساخها في جسد جديد وهيئة جديدة وفي لباس ثوري براق ...

عادت التعيينات القائمة على الولاء الحزبي، وعادت معها الخطط الحثيثة للتغلغل في صلب المؤسسات العمومية والمنظمات الوطنية، وعادت محاولات تكميم الأفواه عن طريق الميليشيات المنظمة تحت مسميات" لجان وروابط حماية الثورة". وعادت كذلك خطب الجمعة الموحدة لكن مع فارق بسيط وهوأن التعليمات كانت في السابق تأتي مباشرة من لجان التنسيق بينما أصبحت اليوم تأتي عن طريق الجمعيات التي فرخها الحزب الحاكم الجديد والتي تقدم نفسها كجمعيات "مستقلة" تنشط صلب المجتمع المدني ... إذ لا يخفى اليوم على أحد قيام هذه السلطة الجديدة بإنشاء عشرات بل مئات الجمعيات التي تستخدمها كأذرع مدنية لماكينتها السياسية والإيديولوجية لتسهيل هيمنتها على مفاصل المجتمع، تماما مثلما كان الحال في العهد البائد حينما كانت الغالبية العظمى من الجمعيات مجرد واجهات كاريكاتورية لحزب التجمع.

وبطبيعة الحال لا يمكن لهذه الذراع "المدنية" أن تتحرك دون وجود ذراع أخرى إعلامية تتكفل بتنشيط "البروباغندا" الحزبية للحكام الجدد وبالتسويق لمشروعهم السياسي والمجتمعي في جانبيه المعلن والمضمر. وهنا تتشكل خطة التحرك من مسارين واضحين كل الوضوح؛ مسارأول يقوم بالأساس على الهجوم المكثف والعنيف على وسائل الإعلام بغرض تطويعها وتدجينها لخدمة السلطة الجديدة، وهوما دلت عليه مختلف التصادمات التي حصلت في الفترة الماضية، وما زالت، بين السلطة والإعلاميين وتحديدا بين شهوة الإخضاع والتركيع وإرادة الاستقلالية والتحرر.

وبالتوازي مع هذا المسار، وربما كنتيجة لفشله، كان هناك مسار آخر يقوم على تنظيم الحملات الإعلامية الدعائية البديلة للمسارالأول، وفي هذا السياق كشفت عديد وسائل الإعلام المحلية والدولية منذ أواخرالسنة الماضية عن أن أكبر الأحزاب السياسية بتونس كان قد جند ما لا يقل عن ألف وستمائة مستخدم لشبكة الإنترنات بغرض تجميل صورته أمام الرأي العام وكذلك، وهذا هو الأخطر، بغرض القيام بالحملات التشويهية ضد كل معارضيه دون استثناء؛ مما يحيلنا على تلك الحملات التي كان يقوم بها في السابق مرتزقة التجمع في خضم معاركه ضد معارضيه.

الغريب أنهم يحاولون دوما انتهاج سياسة الهروب إلى الأمام ولا يترددون في وصم كل من ينتقدهم بأنه "تجمّعي" والحال أنهم أول من بقوا أوفياء إلى نهج التجمع وإلى وسائله وآلياته في الهيمنة على مفاصل الدولة والمجتمع. ما فائدة الحديث عن القطع مع الماضي ومع النظام البائد وشخصياته ورموزه، على أهميته، والمحافظة في ذات الوقت على نفس نهج ذلك النظام في التعاطي مع استحقاقات الحكم واتباع نفس الأساليب التي كان يسلكها في تناول الملفات السياسية والاجتماعية المطروحة ؟، أين هو القطع حينما نرى أن الطبقات الشعبية المهمشة والمفقرة والتي كانت بالأمس القريب وقود هذه الثورة قد وجدت نفسها اليوم على هامش الحراك السياسي الدائر بالبلاد وخارج دائرة اهتمامات الفريق الحاكم، حيث يبدو الوضع في غاية الغرابة والمفارقة بين وعود هلامية بالتنمية الحقيقية وبالتوزيع العادل للثروة، وبين إجراءات فعلية على الأرض لفائدة رأس المال المتوحش ولمصلحة الاحتكارات المالية والاقتصادية الأجنبية؟، هنا يكمن مربط الفرس والسقطة الكبرى التي كانت قد قادت إلى خلخلة أركان النظام السابق وأدت إلى إصابته في مقتل.

لقائل أن يحتج هنا بنظافة أيدي هؤلاء الحكام الجدد وبأنه لا مجال للمقارنة بينهم وبين اللصوص الذين تحكموا برقابنا لعقود، وهذا إلى حد ما صحيح. غيرأن مشكلتنا مع النظام السابق لم تكن في الفساد أوفي نهب المال العام، فكل ذلك لم يكن إلا نتيجة للمنظومة الاستبدادية التي وقع إرساؤها بشكل ممنهج ومدروس، لأن الدكتاتورية في آخر المطاف هي أصل الداء وهي التي تنتج مختلف الظواهر السرطانية الأخرى من فساد ومحسوبية وزبونية الخ...، ومن شأن الاستبداد أن يخلق المناخ الملائم لنمو تلك الطفيليات التي بدورها تفرز شبكة من مجموعات المصالح المافيوزية المرتبطة عضويا ببنية النظام الدكتاتوري. ونحن نتذكر جيدا أن السنوات الأولى من عمر نظام بن علي لم تشهد تلك القصص والروايات المرعبة حول الفساد والنهب والعائلات المتحكمة بثروات البلاد، لأن تلك الفترة كانت فترة "تأسيس" لدعائم الدكتاتورية ولم تكن لجني ثمارها. لذلك، وإذا ما استمر هذا التعامل مع الحكم بالشكل الحالي القائم على منطق الانقضاض والاستيلاء سواء بمحاولات الدمج بين الدولة والحزب الحاكم أو بفرض منطق التبعية والوصاية بالوقوف بشراسة ضد قيام هياكل مستقلة تتولى الإشراف على القطاعات الحساسة كالإعلام والقضاء... إذا ما استمر كل هذا فمن غير المستبعد أن نشهد في المستقبل القريب انحرافا دراماتيكيا حادا للسلطة الحالية نحو أشكال جديدة من الفساد حتى ولو تم ذلك تحت مسميات دينية شتى.

من أجل كل هذا فإن فزاعة عودة التجمعيين لم تعد تقنع أحدا إلا مروجيها الذين يصرون على استخدامها في معاركهم السياسية والانتخابية. لأن أولئك التجمعيين قد أصبحوا منذ اللحظة التي غادر فيها الرئيس الهارب البلاد بمثابة الأيتام الذين لا حول لهم ولا قوة، خاصة وأن النظام السابق لم يكن قائما على عقيدة أو إيديولوجيا بعينها حتى يلتف حولها التجمعيون من جديد لإعادة إنتاج منظومتهم الاستبدادية، بل كان قائما على سلطة الفرد الواحد بكل ما تعنيه من إلغاء للهياكل والمؤسسات والأطر الحزبية الطبيعية. لذلك فحتى لو عادوا اليوم بشكل أو بآخر فلن يجدوا المجال متاحا أمامهم لإعادة تشكيل النظام الذي كانوا يحتمون به. ولكن لنقلها الآن بصراحة ودون مواربة، أنه إذا ما قدر للدكتاتورية أن تعود من جديد إلى هذه الربوع فإن ذلك حتما لن يكون إلا على أيدي الثوار الجدد الذين أظهروا إلى حد الآن قدرا من سوء النية في التعامل مع الاستحقاقات التي تتطلبها عملية الانتقال الديمقراطي ليس فقط في مستوى الممارسة الفعلية على الأرض بل وكذلك في مستوى عملية صياغة النصوص التأسيسية التي سوف نبني عليها دولتنا القادمة.

● طالب سابق بكلية الحقوق