الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن الله سبحانه قدير لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته،
ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ((وتوكل على العزيز الرحيم●الذي يراك حين
تقوم●وتقلبك في الساجدين)) [الشعراء:217-219]، قال إبراهيم الخواص – رحمه
الله –: (ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله)، ومن
تعلق بغير الله أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وتمائمه، واعتمد على حوله
وقوته؛ وَكَلَهُ الله إلى ذلك وخذله، قال في تيسير العزيز الحميد: (وهذا
معروف بالنصوص والتجارب) .
وأرجح المكاسب الثقة بكفاية الله وحسن الظن به، ومن ظن أنه ينال ما عند
الله بمعصيته ومخالفته كما يُنال بطاعته والتقرب إليه، أو ظن أنه إذا ترك
شيئاً من أجله لم يعوضه الله خيراً منه، أو ظن أن من فعل شيئاً لأجله لم
يعطه أفضل منه، أو ظن أنه إذا صدقه في التوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما
سأله؛ فقد ظن بالله ظن السَّوء، ولا يسلم من هذا إلا من عرف الله، وعرف
أسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده، قال ابن القيم – رحمه الله –: (أكثر
الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظن السَّوء، فإن
غالب بني آدم يعتقد أنه يستحق فوق ما شاءه الله له، ومن فتش في نفسه وتغلغل
في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامناً، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا،
وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السَّوء، وليظن السَّوْء
بنفسه) .
لا يستقيم توكل العبد حتى يصح توحيده، وعلى قدر تجريده التوحيد يكون صحة
التوكل، والعبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك شعبة من شعب قلبه، فنقص من
توكله بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسد
فاقته، ومن سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون
أغنى الناس فليكن ما في يد الله أوثق منه مما في يده، والرضا والتوكل
يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه والرضا بعد وقوعه، والرضا ثمرة التوكل،
وروح التوكل التفويض وإلقاء أمورك كلها إلى الله، يقول داود بن سليمان –
رحمه الله –: (يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن
الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات) .
وكلما كان العبد بالله أعرف كان توكله عليه أقوى، وقوة التوكل وضعفه بحسب
قوة الإيمان وضعفه، ومن توكل على الله فلا يعجل بالفرج، فالله ذكر كفايته
للمتوكل عليه وربما أوهم ذلك تعجل الكفاية وقت التوكل، فالله جعل لكل شيء
قدراً ووقتاً؛ فلا يستعجل المتوكل فيقول: قد توكلت ودعوت فلم أر شيئاً،
فالله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدره. والله هو المتفرد بالاختيار
والتدبير، وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وهو أرحم به من نفسه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .