وسيرة «علي شورّب» الآن… أخطر رجل عرفه الشارع التونسي؟ سؤال قد يتبادر الى الأذهان!!
في الواقع، ليست هناك مناسبة للحديث عنه، سوى أن صدفة الحياة وحدها عرفتنا، على «ابن حومته» وأحد من عرفوه عن قرب لا أكثر ولا أقل!!
ولقد مهّد لهذه الصدفة الزميل العزيز بقسم التوزيع ـ مشكورا ـ نورالدين الكعباشي، حين جاءني ذات يوم وقال لي «هل لك رغبة في الكتابة عن «علي شورّب». هذا الرجل الذي شغل الناس ذات فترة من تاريخ تونس، وتحدث عنه بورقيبة في أحد خطاباته، وعبد العزيز العروي في مسامراته؟ اني أعرف من يعرفه حق المعرفة!! وبحكم أن لـ »علي شورّب» شخصية مثيرة للجدل وله مكانة خاصة في الذاكرة الشعبية، فلقد أعجبتني الفكرة.!!
ويوم الأحد الفارط، كان اللقاء مع السيد «عبد الرؤوف عبد ربه» سائق سيارة أجرة «تاكسي» والبالغ من العمر 60 عاما، والمغرم الى حد العشق بتربية الأكباش المعدة لمقابلات النطيح.. والكلاب والعصافير.. بمنزله الكائن بالدندان وقبل ذلك وبعده فهو يختزن ذاكرة قوية حول تاريخ تونس في الخمسينات والستينات والسبعينات.. وحول تاريخ «علي شورّب» تحديدا.
ومن هنا انطلق الحديث… والحديث ذو شجون كما يقال!!
.. ومن هنا أيضا بادرت محدثي بالسؤال وقلت: أراك تعلق صور «علي شورّب» على الجدران وفي كل مكان.. فلمَ يا ترى؟!
فقال: لأنه شخصية مثيرة للجدل ولأنه «ابن حومتي» حيث كنت أقطن بـ»سوق بلخير» ومتأثر جدا بحبه لأمه خالتي «شريفة» فلك أن تتصور أن «باندي» شغل الناس، وهوايته كل هوايته «العرك والخصام» ويهابه كل الرجال في تلك الفترة، يذوب كالملح، ويستكين، ويهدأ عندما يقف أمام أمه، وقد يكون في قمة هيجانه، «كالأسد» الجسور، ولكن بمجرّد أن تناديه أمه «يا علي» يهجع، وينزل عند رغبتها! لم يكن أحد يقدر على ترويضه، ولا 15 رجلا من أعتى الرجال، ولكن أمه كانت «تروضه» وكان يخاف منها، ومن هذه الناحية فقط فأنا أحترمه… وأحبه؟!
وهنا صمت محدثي السيد «عبد الرؤوف عبد ربه» فسألته لمَ سمي بـ »علي شورّب» إذن؟!
وبلا تردد قال: لأن «شواربو كبار وكشاكشو خارجة من فمّو» واسمه الحقيقي هو «علي البجاوي» وكنيته الحقيقية هي «علي أبو الشوارب»… وكان يناديه بهذه الكنية كل من يهابه، ثم تحولت الى «علي شورّب» بلهجتنا العامية، ولعل الناس الآن لا يعرفون أن «علي شورّب» قد بدأ حياته مناضلا ضد «الجدارمية» وكان يشاكس رجال المستعمر الفرنسي ولا يهابهم، دفاعا عن والده «علي» وزملائه بائعي الخضر والأسماك الذين كانوا يتعرضون الى مضايقات كثيرة من طرف المستعمرين، فكان «علي شورّب» يقف لهم بالمرصاد ويقتصّ منهم! لقد بدأ حياته مناضلا، ثم انحرف، ولعل البيئة والجهل والفقر، وأصدقاء السوء كانوا سببا رئيسيا في تغيير نسق حياته وجعلها تسير على وتيرة «الباندية» في تلك الفترة!
وأذكر في ما أذكر أن «علي شورّب» كان يقول لنا نحن أبناء حومته ناصحا «لا تسيروا على نهجي، ولا تتأثروا بي فأنا لم أجد من ينصحني ويأخذ بيدي، أعرف أن سلوكي مستهجن ومرفوض ولكن»؟ وللتاريخ أيضا يضيف محدثي مستدركا ومتدفقا في الكلام، فإن علي شورّب كان ملاكما وكان غطاسا، ولعل هذا ما ساعده في جعل الناس تهابه وتخاف منه ويخضعون لكل ما كان يطلبه؟!
* وماذا كان يطلب؟ كنت قد سألت محدثي مستغربا ومتعجبا؟!
وهنا قال السيد «عبد الرؤوف عبد ربه» مجيبا «كان لا يحمل معه مالا في جيبه أبدا، وكان كل شيء يحتاجه، يأخذه بالقوة وبالعنف الشديد من أي مكان ومن اي محل يعترض سبيله، كانت له قدرة عجيبة على استعمال قوة الجسد لاستغلال موارد الآخرين، بهدف تحقيق مصلحة خاصة وبطريقة نفعية، ولعل أيضا ما ساعده على ذلك أنه لم يجد من يقف في وجهه مخافة بطشه، ومن كان يقف في وجهه؟!».
ان سرّ انحراف «علي شورّب» كما أسلفت يرجع الى أنه قد عثر عثرته الاولى عن جهل ولم يجد اليد الخيّرة، الخبيرة التي تمتد لتقيل عثراته، وتحفظ عليه عذرية كرامته! ومن هنا لم يبق له ما يحافظ عليه فرفع عن وجهه برقع الحياء!
* «مرامدي»
لقد كان «علي شورّب» ـ يضيف محدّثي مستدركا ـ «مرامدي» بكل ما في الكلمة من معنى وكان ذا شخصية «سيكوباتية» يمارس عدّة أفعال ومن بينها «البلطجة» أو «الفتوة» كما يقال بالمصري، فلقد استطاب ان يجلس على كرسي «الباندية» والناس تتقرب اليه، وتخدمه، وتسارع أمه بأن تقدم اليه ما يطلب… فيوم كان «الفرنك فرنك» كان هو يحصل على الملايين من رجال الأعمال وميسوري الحال وأصحاب المتاجر، اتقاء لشره ومخافة ان يكسّر لهم متاجرهم، وكان أيضا يصرف كل ذلك المال على ملذاته لا أكثر ولا أقل!!
لقد كان «علي شورّب» في تلك الفترة معروفا بقبضة يده القوية، وكان منظره مخيفا ومرعبا، رغم طيبة قلبه، عندما يكون «صاحيا» وغير مخمور ولكن عندما «يشرب» فان «الأبالسة والشياطين والدجاج الأكحل» تحيط به وتجعله يتصرف بكل عدوانية، وما لم يكن يستطيع ان يحققه «بالسياسة» يحققه بالقوة والعنف!
ولقد كان يدخل الى أي مقهى أو مطعم أو متجر، فيطلب كل شيء مجانا، ويا ويل من يطلبه أو يطالبه بتسديد ما عليه، فإن كل شيء في المكان قد يتحول في لحظة الى أثر بعد عين!! وهذا بطبيعة الحال كان سلوكا مستهجنا وغير سوي ولم نكن نفهم أسبابه!
ولقد كان اذا سار في الشارع، يكون مزهوا بنفسه، وبمن كان يشير اليه بالقول «أنظر… انه علي شورّب»!!
كان اذا «جاع» يهدّد ليأكل، وكان يعيش على طريقة «المشهورين» في تلك الفترة، كان يحب التبجيل، والتقدير لشخصه، رغم أن أصحاب المقامات العالية وعندما تكلّمه بديبلوماسية كان يأخذ بخاطرها وينزل عند رغبتها ويغادر المكان بلا مشاكل!!
كانت مشاكل «علي شورّب» كثيرة وعديدة، وكان مستعدا في كل لحظة الى أن يختلق مشكلة، ومعركة كبيرة، ولكنه أبدا لم «يزهق روحا».
إن «علي شورّب» في المخيال الشعبي هو أسطورة من الأساطير ولا غرو في ذلك… فلقد عاش هو وأفراد عائلته أكثر من 30 سنة في «سوق بلخير» في دار على وجه الكراء ولم يسدّد يوما معلوم الكراء!! ولقد كنا في العاصمة اذا لاحظنا اختناقا لحركة المرور وتجمهر الناس بأعداد غفيرة ندرك أن وراء ذلك «عركة حامية الوطيس» لـ»علي شورّب»!!
وما أكثر عراكه، ولأتفه الأسباب، وأقدّر هنا أن «علي شورّب» قد حوكم في أكثر من 1500 «ربطية وعركة» ولقد تكوّنت له من كثرة تردّده على السجن ثقافة قانونية كبيرة، استطاع ان يقدّر بواسطتها كل الأحكام التي قد تصدر ضدّه أو لغيره، وكان يرفض ان يدافع عنه أي محام، وكان حديث الناس في كل مكان، وكان مزهوا بذلك بحكم ثقافته المحدودة وأصدقاء السوء الذين كانوا يشجعونه على فعل ذلك، ويحتمون به، وينفذون كل طلباته، ولقد بلغت شهرته الآفاق، وكان مشهورا في تلك الفترة شأنه شأن «أم كلثوم» و»عبد الحليم حافظ» ولكن كلا في مجاله!!
بل ولقد بلغت «شهرته» حدّا، جعلت الزعيم الحبيب بورقيبة من كثرة ما سمع عنه، يتحدث عنه في أحد خطاباته ويقول ان المستعمرين «مرامدية» مثل «علي شورّب»، وفي خطاب آخر يتساءل من هو «علي شورّب» هذا… حتى يفعل ما يفعل، وكان المرحوم عبد العزيز العروي ينتقد «علي شورّب» في مسامراته، وينصح المستمعين بتجنب أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة، وتنمية المسؤولية الاجتماعية عند الافراد والاهتمام بالرياضة البدنية، واعادة تأهيل الكبار نحو السلوك الحضاري كي يكونوا قدوة ويمنعوا السلوك العنيف عند الصغار!!
* نهاية مأسوية
وطال الحديث، وكانت الوقائع غريبة ومثيرة ومضحكة أيضا في تلك الفترة، والمجال يضيق عن ذكرها بالتفاصيل المملة، وبأسماء من عاشوها! وهو ما جعلها حديث الناس، وتختزن في ذاكرتهم الشعبية ويتندرون بها في مجالسهم الخاصة والعامة. ولكن يبقى في البال سؤال: كيف كانت نهاية «علي شورّب»؟! وهذا ما سألت عنه السيد «عبد الرؤوف عبد ربّه»؟!
فقال: هي النهاية الطبيعية لكل تلك المعارك التي قام بها، وعادة ما تكون النهاية في مثل هذه المواقف: القتل أو الاعدام أو المؤبد؟
فذات يوم من سنة 1970 كانت النهاية المحتومة، وعلى اثر «معركة» دامية بين «علي شورّب» وأربعة من «أصدقائه» اعترضوا سبيله في شارع بورقيبة بالعاصمة، وكانت بينهم «حسبة مالية» اختاروا العنف لحسمها، وكان «علي شورّب» يومها مخمورا الى حدّ الثمالة، «فتخاصموا وتضاربوا» حتى سقط «علي شورّب» على مؤخرة رأسه على «مادة الطريق»… «لقد سقط في تلك المرة» ولم يقم… بخلاف المرات السابقة التي كان يسقط فيها ويقوم من جديد!! ولم يصدّق الناس أن «علي شورّب» قد مات… وكان عمره 45 سنة، بعد حياة حافلة بـ «المغامرات» و «الخصومات»! ولقد بكاه كل أصحابه «الباندية»… ولقد قدم لتوديعه الى مقبرة الجلاز، خلق كثير، ضاقت بهم شوارع العاصمة وأحياؤها، وكانت جنازته «جنازة العازب» أشبه بمظاهرة وكانت السمة الغالبة عليها «الضرب والمضروب» وكان يوم لا ينسى في ذاكرة الناس!!
ولقد تعلم الناس من بعدها أن الجريمة لا تفيد وأن الشرّ أي شرّ لابد له من نهاية، وأن الخير أطول عمرا من كل الشرور، وتعلم أصدقاؤه المقربين منه، أن لكل انسان نقطة ضعف، لكن المهم ألا تتحول هذه النقطة الى بحر يغرق فيه ويغرق الآخرين معه!
ولقد تعلّمت ـ ينهي السيد عبد الرؤوف عبد ربه حديثه الينا بعد أن أفاض في الحديث والتفصيل ـ من تجربة «علي شورّب» بحكم أنه كان جارا لي، و «ولد حومتي» ويحضر «مقابلات نطيح الأكباش»، أن الحياة قصيرة مهما طالت وأن الاولى والافضل والأجمل ان نستغلها في ما ينفع ولا يدمّر، وفي ما يحبّب الينا الناس لا في ما ينفّر، وأن التأهيل المبكر «للمنحرفين» عن طريق تكليفهم ببعض الأعمال الجماعية والأنشطة التي تفرغ طاقة الغضب لديهم هو وقاية لهم، وهو أفضل من العلاج عندما لا يكون ممكنا!