ان الحجية التي يتمسك بها الأطراف في نزاعاتهم لا يمكن أن تكون أداة تخدم
الدعوى المدنية إلا إذا تبين القاضي دوره في تقدير وسائل الإثبات (الفقرة
الأولى) وتنقسم وسائل الإثبات في القانون التونسي إلى وسائل كاملة ووسائل
ناقصة, كما أنه من المفيد أن يحدد القاضي تبعة الإثبات ( الفقرة الثانية)
ومن خلالها القواعد التي تحكم الإثبات وحقوق الأطراف في الإثبات.
الفقرة الأولى: دور القاضي في تقدير وسائل الإثبات.
إن
المشرع التونسي بوضعه نظام الإثبات القانوني قد قيد القاضي في اتجاهين,
الاتجاه الأول تحديد أدلة الإثبات المعتمدة قانونا, والاتجاه الثاني تحديد
قيمة وحجية كل وسيلة. فلم يترك للقاضي مجالا يحدد على ضوءه قناعته في
النزاع المدني ومن هذا التمشي تتجلى محدودية دور القاضي في تقدير وسائل
الإثبات (أ) رغم ما يتمتع به الأطراف من حق في الإثبات (ب).
أ- محدودية دور القاضي في تقدير حجية وسائل الإثبات:
واعتبر
بعض الفقهاء أن المشرع بانتهاجه هذا الأسلوب, يكون قد استعاض عن البحث عن
الحقيقة الواقعية بالبحث عن الحقيقة القانونية والتي لا تمثل إلا افتراض
قانوني محض . غير أنه بملاحظة وسائل الإثبات التي حددها المشرع نتبين
صنفين, الصنف الأول ويتعلق بالوسائل الكاملة ونعني بها الكتب الرسمي
والإقرار واليمين الحاسمة للنزاع وهي وسائل ذات حجية مطلقة تلزم الأطراف
والقاضي فلا يملك هذا الأخير إلا مراقبة مدى توفر شروط صحة هذه الأدلة من
الناحية الشكلية الصرفة وترتيب الأثر المناسب لها.وعليه فإنه لا يمكن
الحديث بناء على ذلك على حرية القاضي في تقدير وسائل الإثبات.
أما
الصنف الثاني من وسائل الإثبات وهي الكتب غير الرسمي والبينة ويمين
الاستيفاء فإن القاضي يسترجع البعض من سلطات التقدير الموكولة إليه باعتبار
أن المشرع لم يحدد سلفا حجية هذه الأدلة ولم يشترط نظاما خاصا للإثبات
بها. فيصبح بذلك حرا في اعتماد واحدة من هذه الوسائل وفي تقدير مدى حجيتها
في النزاع وهل هي كافية لوحدها لإقناعه بصحة الإدعاء أو نفيه أم يجب
تعزيزها بغيرها من الوسائل لإتمامها. وعلى أساس ما تقدم يتجه البحث في سلطة
القاضي في تقدير وسائل الإثبات الكاملة (1) وكذلك في تقدير وسائل الإثبات
الناقصة (2) وهل هو مقيد فعلا بحجية وسائل الإثبات؟.
1- القاضي ووسائل الإثبات الكاملة.
لم
يخصص المشرع بابا يتعلق بحجية الأدلة المستعملة من بين قواعد الإثبات
وإنما ورد تحديد القوة لكل دليل على حده من خلال نصوص متفرقة وردت بالمجلة
المدنية لذلك سنتعرض بالتفصيل لهذه الأدلة ومدى حجيتها وتقيد القاضي بها.
الإقرار
القضائي وهو ينقسم إلى إقرار قضائي و غير قضائي ويعتبر الأول من الحجج
التي بذاتها تكون دليلا مقنعا للقاضي باعتبار أن المرء يؤاخذ بإقراره
المصرح به أمام القاضي ويتعداه ليلزم وريثه وكل من أنجر له حق منه, وذلك
تطبيقا لما نص عليه الفصل 434 م ا ع. فالإقرار حجة قاطعة ولا يجوز إثبات
عكسه مثلما ذهب إلى ذلك أحد الفقهاء كما لا يجوز إثباته بشهادة الشهود إذا
تعلق بالتزام يقتضي القانون إثباته بالكتابة. أما في خصوص حجية اليمين
الحاسمة فتتجلى من عدم إمكانية قبول شهادة الشهود لنقض ما تم " اليمين فيها
إلا عند المطالبة بالزور لدى المحكمة الجنائية وما يلاحظ في شأن حجية
الكتائب أن الحجج الرسمية يعتد بها في حق المتعاقدين أنفسهم وفي حق غيرهم
ما لم يقع الطعن فيها بالزور في حين أن الكتب الخطي الذي يشهد بصحته الخصم
أو يتبين صحته بصورة قانونية يتم اعتباره في قوة الحجة الرسمية وأقر المشرع
بخصوص دفاتر التجارة التي تتضمن بيانات متطابقة بين الطرفين كالحجة بخط
اليد والمتضمنة إمضاء لا تكون حجة لمن يمسكها باعتبار أن المرء لا يعد
دليلا لنفسه بل عليه ولو بغير إمضاء أو تاريخ حتى يقع إثبات العكس تطبيقا
للفصل 468 م ا ع.
وعلى هذا الأساس جعل المشرع لهذه الوسائل الممتازة
حجية مطلقة تجاه القاضي والأطراف فلا يمكن الحديث عن هامش تقدير لها من طرف
القاضي ولا يمكن له حتى في صورة عدم قناعته بإحداها أن لا يعتمدها بالنظر
إلى أمور إنسانية ومبادئ العدل والإنصاف. وواضح أن المشرع ميز هذه الوسائل
بأن جعلها تنطبق على كل التصرفات القانونية .
ولعل الأساس الذي ركز
عليه المشرع إطلاق حجية هذه الوسائل أنه يقع اعتمادها في موضع تتوفر فيه كل
الضمانات للأطراف. من ذلك وقوعها أمام مجلس القضاء مما يفترض فيها الصحة
والمطابقة للحقيقة. غير أن السؤال المطروح هل هي ملزمة للقاضي في كل الظروف
و الأحوال؟ لاشك أن الإجابة تستدعي النظر في الغايات المختلفة التي يقصدها
المشرع. ففي إعطاء هذه الوسائل تلك القوة هو المحافظة على استقرار الحقوق
باستقرار المبادئ القانونية وعدم مرونتها تجاه الذين يختارون إعداد وسائلهم
التي منحها المشرع قوة مطلقة.
أما الغاية الثانية التي وقعت التضحية
بها وهي التخلي عن مبادئ العدل والإنصاف أمام استقرار التصرفات القانونية.
لكن ألا يمكن المحافظة على هاتين الغايتين المختلفتين؟ في نظري المتواضع إن
تحقيق غايات مختلفة في أن واحد لا يمكن أن تتحقق إلا بتدخل القاضي وذلك
بالمحافظة على استقرار التصرفات القانونية لكن في إطار مبادئ العدل
والإنصاف وليتم ذلك لابد من تمكين القاضي من سلطة تقديرية مقيدة تمكنه لا
من تحديد وسيلة الإثبات الملائمة بل من تقييمها في الوقت الذي يلاحظ فيه
ضرورة تطبيق هذه المبادئ خاصة عند الريبة في حصول الدليل كمن يحصل على
إقرار بالتهديد أو من يعتمد على اليمين الحاسمة بغاية الطمع أو لفقدان
الوازع الأخلاقي والديني ولا شك أن حجية اليمين الحاسمة في أيامنا هذه في
حاجة للمراجعة باعتبار أن الكثير من الخصوم يؤدون اليمين الحاسمة للنزاع
كذبا وبهتانا.
وعلى الرغم من ذلك يتبقى للقاضي بعض السلطة من خلال
مراقبة شكليات هذه الوسائل فيتحقق من أهلية المقر وكيفية الإقرار وطبيعة
الإقرار. واستنتاجه من سكوت الخصم كما يراقب صدور الكتب عن الأمي ووجود من
عدم وجود محضر التلاوة وشروط الطعن بالزور في اليمين الحاسمة, غيرها من
الشروط الشكلية الأخرى, كما أن القاضي بإمكانه أن يلعب دورا أهم في وسائل
الإثبات التي تعد من الوسائل الناقصة.
2- القاضي ووسائل الإثبات الناقصة.
قسم
الفقهاء أدلة الإثبات إلى أدلة ناقصة وأخرى كاملة اعتمادا على قوة كل
واحدة, فإذا كانت الوسيلة كافية لوحدها لحسم النزاع اعتبرت كاملة, أما إذا
كانت غير قادرة بمفردها على حسم النزاع وإقناع القاضي بحجتها فإنها تعد
ناقصة. ومن هذه الوسائل الناقصة يتمتع القاضي بسلطة تقديرية واسعة في
اعتمادها من ناحية وفي تقدير مفعولها في النزاع من ناحية أخرى إن التصرفات
القانونية التي اشترط المشرع أن يتم الإثبات فيها بصورة معينة لا يقبل أن
يتم التدليل عليها بوسيلة أخرى. ففي التصرفات القانونية التي اشترط المشرع
أن يتم إثباتها بالحجة الرسمية لا يجوز أن يتم ذلك ببداية الحجة بالكتابة.