إن الأحكام المنظمة لإثبات البنوة في القانون التونسي لئن كان الهدف
الأساسي منها هو إقامة الحقيقة البيولوجية من خلال اعتماد قرينة الفراش
لإثبات النسب الشرعي ، والتحليل الجيني لإثبات بنوة الأطفال المهملين و
مجهولي النسب ، إلا أن البحث عن هذه الحقيقة يبقى نسبيا ذلك أن المشرع أبقى
للإرادة الشخصية دورا هاما لإثبات النسب و لإثبات البنوة الطبيعية من خلال
وسيلتي الإقرار و شهادة الشهود ، بحيث لا تتأسس رابطة البنوة في هذه
الصورة على الحقيقة البيولوجية بقدر ما تتأسس على حقيقة الإرادة الشخصية
التي تحمل على النزاهة و الصدق . و لعل الإقرار يأتي هنا كأهم وسيلة تعتمد
أساسا على الإرادة الشخصية التي تبرز بصفة جلية و مباشرة . و الإقرار لغة
هو اعتراف بالحق و إذعان له ، أما في الاصطلاح القانوني فهو بأن يعترف
الطرف المدعى عليه بالتصرف أو الواقعة، و ينعته الفقه بسيد الحجج و تعتبره
المحاكم التونسية الأعلى منزلة في البناء الحصري لطرق الإثبات. و يعد
الإقرار بالنسب أحد وسائل إثبات النسب الشرعي في م أ ش و يأتي في المرتبة
الثانية بعد الفراش وورد بالفصول 68 و 70 و 73 و 74 م أ ش دون أن يفرده
المشرع التونسي تحت عنوان خاص كما هو الشأن بالنسبة للمشرع المغربي. كما
أورد المشرع التونسي الإقرار أيضا كوسيلة لإثبات بنوة الأطفال المهملين و
مجهولي النسب بالفصل الأول من القانون عـ75ـدد لسنة 1998 . و الملاحظ أن
المشرع التونسي قد جعل من الإقرار وسيلة لإثبات النسب الشرعي و لإثبات
البنوة على حد السواء. وسواء تعلق الأمر بالإقرار بالنسب أو الإقرار
بالبنوة الطبيعية في قانون 1998 فإن المشرع لم يعط تعريفا مضبوطا للإقرار
لا في م أ ش و لا في القانون المتعلق بالأطفال المهملين و مجهولي النسب كما
لم يضع شروطا يتقيد بها القاضي عند الحكم و لم يبين الآثار القانونية
المترتبة عنه . فقد أهمل المشرع خصائص الإقرار و مميزاته الشيء الذي انجر
عنه خلاف كبير بين المحاكم التونسية في فهم مقتضيات الإقرار و نتائجه
القانونية بالنسبة لإثبات النسب بصفة عامة و لإثبات نسب ابن الزنا بصفة
خاصة و لما يثيره اعتماد المشرع على الإقرار كوسيلة لإثبات البنوة في قانون
1998 من إشكاليات تتصل بمدى تطابقه مع الإقرار بالنسب في م أ ش و بالجدوى
العملية من ذلك و لعل التساؤل عن النظام القانوني للإقرار في إثبات النسب
يدعونا إلى بيان شروط الإقرار في فقرة أولى ثم تحديد آثاره في فقرة ثانية .

الفقرة الأولى
شروط الإقرار بالنسب:
إن إقرار الأب بأن الطفل ابنه سواء كان ذلك في م أ ش أو حسب القانون
عـ75ـدد سنة 1998 لا يمضي و لا يرتب آثاره القانونية إلا إذا كان مستكملا
لشروطه الموضوعية و الشكلية .

أ – الشروط الموضوعية للإقرار :

لقد أورد المشرع التونسي شروطا موضوعية لصحة الإقرار بالنسب
بالفصلين 68 و 70 م أ ش . ورغم أن القانون عــ75ـدد لسنة 1998 لم يضع فيه
المشرع شروطا لصحة الإقرار إلا أن ذلك لا يمنع من فرض شروطه العامة.

و
على هذا الأساس يمكن القول أن الإقرار بالنسب في م أ ش و الإقرار بالبنوة
في قانون 1998 يخضعان لشروط عامة تنطبق على كليهما بقي أن الإقرار بالنسب
يخضع لشرط خاص تفرضه طبيعة البنوة المراد إثباتها. و تتعلق الشروط العامة
للإقرار بالمقر و بالمقر له و بشروط عدم ثبوت ما يخالف الإقرار . و سواء
تعلق الأمر بالإقرار في م أ ش أو بالإقرار في قانون 1998 فإن الإقرار لا
يمكن أن يصدر عن غير الأب وهو ما يستشف ضمنيا من أحكام الفصل الأول من هذا
القانون و الفصل 68 م أ ش و تأسيسا على ذلك فإن إقرار الأم بأمومتها للطفل
لا يترتب عنه ثبوت النسب تجاه الأب أو إسناد اللقب للطفل إلا إذا كان
مقترنا بإقرار صريح من الأب . و من جهة أخرى فإن الإقرار بالبنوة بما هو
تعبير عن الإرادة المنفردة للمقر يجب أن يصدر عنه شخصيا و لا يمكن أن يوكل
غيره للقيام بذلك نظرا لتعلق الإقرار بشخص المقر نفسه كما يجب أن يصدر
الإقرار عن الإرادة الحرة والواعية. و علاوة على ذلك يستوجب الإقرار جملة
من الشروط المتعلقة بالمقر له إذ يشترط المشرع التونسي لصحة الإقرار أن
يكون المقر له مجهول النسب عملا بأحكام الفصل 70 م أ ش كذلك الشأن بالنسبة
للإقرار بالبنوة في القانون عـ75ـدد لسنة 1998 طالما و أن القانون المذكور
يتعلق بالأطفال المهملين و مجهولي النسب . فالإقرار بالنسب لا يجب أن يتعلق
بطفل معلوم النسب ، و في صورة وجود أكثر من إقرار بالنسب فان الحل المعتمد
حسب هذا الاتجاه هو الأخذ بالإقرار الأول طالما ثبتت من خلاله علاقة النسب
و لا عمل على الإقرار اللاحق إلا إذا تم نفي النسب الأول . و قد يطرح
الإشكال أيضا في صورة وجود أكثر من إقرار ببنوة الطفل المجهول النسب في
إطار دعوى إسناد لقب وهي الصورة التي تكون فيها والدته قد اتصلت جنسيا
بأكثر من شخص و كل منهم يدعى أبوته لهذا الطفل. نعتقد أنه في هذه الحالة لا
يمكن للمحكمة أن تحسم النزاع و تحدد الأب الحقيقي للطفل إلا بالالتجاء
لتقنية التحليل الجيني ، على أن المسألة قد تتعقد أكثر إذا أقر شخص بالنسب و
أسس دعواه على أحكام الفصل 68 م أ ش في حين أنه تم إسناد اللقب العائلي
لشخص آخر على أساس القانون عـ75ـدد لسنة 98 ، فهل أن إسناد اللقب يجعل
الطفل في هذه الحالة معلوم النسب؟ للإجابة عن هذا الإشكال يجب أولا توضيح
مسألة أساسية و هي أن إثبات البنوة الطبيعية في قانون 28 أكتوبر 1998 تخول
للطفل حقوقا تتقارب في مضمونها و الحقوق الثابتة للطفل الشرعي و خاصة فيما
يتعلق بالحالة المدنية للطفل. فإذا قام شخص بدعوى في نسبة طفل إليه و يكون
قد تم إسناد لقب عائلي لهذا الطفل، فانه يجوز معارضته بالحكم القاضي بإسناد
اللقب طالما أن ثبوت النسب سيترتب عليه إدخال تحوير على الحالة المدنية
للطفل الذي يمكن اعتباره معلوم البنوة و لا يمكن الإقرار له بالنسب إلا إذا
تم نفي علاقة البنوة القائمة . على أنه و في جميع الأحوال لا يمكن التصريح
بثبوت البنوة إذا ثبت ما يخالف الإقرار، فقد نص الفصل 70 م أ ش على أنه "
لا عمل على الإقرار إذا ثبت قطعيا ما يخالفه " و تقتضي هذه القاعدة علاوة
على وجوب أن يكون الطفل مجهول النسب، أن يكون أيضا من المقبول منطقيا أن
يكون المقر له ابنا للمقر و هو ما يستوجب أن يكون فارق السن بينهما ملائما ،
و تنطبق هذه القاعدة منطقيا على الإقرار بالبنوة الطبيعية.

غير
أن المشرع التونسي لم يحدد هذا الفارق في السن و يرى الأستاذ الساسي بن
حليمة أنه يمكن اعتماد الفارق في السن المشترط بين المتبني و المتبنى في
الفصل 10 من القانون عـ27ـدد لسنة 1958 المؤرخ في 04 مارس 1958 المتعلق
بالولاية العمومية و الكفالة و التبني كمعيار و يشترط هذا الفصل ألا يقل
الفارق في السن بينهما عن خمسة عشر عاما على الأقل.

وعموما فإن
هذه العلاقة لا تكون ممكنة إلا إذا لم توجد موانع مادية أو بيولوجية تخالف
الإقرار ، كأن يثبت عدم إمكان التلاقي بين الأم و الأب المزعوم لبعد
المسافة بينهما أو لوجود أحدهما في السجن مثلا أو أن يثبت أن المقر عاقر.
و الجدير بالذكر أن إثبات عدم إمكان التلاقي بين الأم و الأب المزعوم
أو أن هذا الأخير عاقر لا يحمل على المقر و إنما يحمل على من ينازع في صحة
هذا الإقرار . ذلك أن الأصل في الأمور الصحة والمطابقة للقانون ما لم يثبت
خلافه.

و مهما يكن من أمر فإن الشروط التشريعية للإقرار لا تكاد
تختلف بين الإقرار بالنسب الوارد بم أ ش و الإقرار بالبنوة في قانون 1998 و
إنما يكمن الاختلاف الجو هري بينهما في الشروط التي وضعها فقه القضاء و
التي لا يمكن أن تتعلق إلا بالإقرار بالنسب. فلقد أدرج المشرع التونسي
الإقرار كوسيلة لإثبات النسب في م أ ش دون تحديد صريح لطبيعة بنوة الطفل
المقر له بالنسب الشيء الذي انجر عنه خلاف كبير بين فقهاء القانون في تونس و
بين المحاكم التونسية في فهم مقتضيات هذا الإقرار و ترتيب نتائجه
القانونية بالنسبة لإثبات النسب بصفة عامة و لإثبات نسب ابن الزنا بصفة
خاصة . فذهب الأستاذ الساسي بن حليمة في الإجابة عن الإشكال المطروح وهو هل
يشترط لصحة الإقرار بالنسب اقترانه بقيام علاقة الزواج ؟ إن الفصل 68 م أ ش
يقتضي أن النسب يثبت بالإقرار بمعزل عن لزوم إثبات العلاقة الزوجية و هذه
النزعة تتجسم من خلال ما ذهب إليه المشرع من وضع صور ثلاث لإثبات النسب و
يأتي الإقرار كإحدى هذه الصور و لذلك فإنه فلا مناص من اعتبار أن تلك
الوسيلة هي مستقلة مبدئيا عن الفراش و كافية في حد ذاتها لإثبات النسب
فيمكن أن يكون النسب في هذه الصورة غير ناتج عن زواج شرعي و في هذه الصورة
فإن الطفل الطبيعي سيتقمص ملامح الابن الشرعي و يتستر ورائها بفضل إقرار
والده له بالبنوة و يستخلص من ذلك أن الإقرار بالنسب في القانون التونسي
يتطابق مع الاعتراف بالابن الطبيعي في القانون الفرنسي مما يجعل الباب
مفتوحا على مصراعيه أمام الأبناء الطبيعيين يدخلون منه أفواجا زمرة الأبناء
الشرعيين . وقد تبنت بعض المحاكم التونسية هذا الاتجاه من ذلك الحكم
الابتدائي الصادر عن المحكمة الابتدائية بقفصه جاء فيه أنه: " إذا اتصل رجل
متزوج بامرأة و ثبتت إدانتهما جزائيا من أجل ارتكاب جريمة الزنا وأن
الاتصال الجنسي الواقع بينهما أنتج ابنا وقام الرجل بطلب إلحاق ذلك الطفل
بنسبه و قررت المحكمة التحرير على الطرفين فاعترف المدعي أن الابن من صلبه و
أكدت الأم ذلك طالبة بدورها إلحاق نسب والده فإن الإقرار المعتمد يعتبر
أحد وسائل الإثبات الأساسية المعتمدة في مادة النسب إذا ما توفرت شروط
اعتماده عملا بأحكام الفصل 68 م أ ش,و الإقرار المعتمد جاء صريحا وواضحا
بما أنه تم أمام القاضي المقرر ويعتبر إقرار حكميا حسب الفصل 428 م إ ع " و
قد ذهبت محكمة التعقيب في بعض قراراتها إلى القول بهذا الاتجاه من ذلك
القرار عـ2000ـدد المؤرخ في 05 ديسمبر 1963 و الذي جاء فيه: " أن الزواج
ليس ضروريا لإثبات النسب."