الجريمة الارهابية (tn)
بحث حول الجريمة الارهابية في القانون التونسي م
الجزء الأول: مفهوم غير محدد لجريمة إرهابية (tn)
الفصل الأول: فشل محاولات إقرار تعريف قانوني للإرهاب (tn)
الفصل الثاني: خصوصيات الظاهرة الإرهابية كمعيار ضابط لمفهوم مستقل للجريمة الإرهابية (tn)
الجزء الثاني: نظام ردعي متذبذب للجريمة الارهابية (tn).
الفصل الأول: العجز عن تكريس نظام ردعي فعال ومتناغم في مكافحة الجرائم الإرهابية (tn)
الفصل الثاني: تحول كبير في النظام الإجرائي الردعي لمكافحة الإرهاب وآثاره الخطيرة (tn)
المقدمــة.
بسم الله الرحمان الرحيم
"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل اله يوف إليكم وأنتم لا تطلعون وإن جنحوا السلم فأجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم". صدق الله العظيم- آية 60 سورة الأنفال
اتسعت دائرة العنف في الآونة الاخيرة وشهد مسرح الأحداث الدولية العديد من النشاطات الإرهابية التي تتجاوز آثارها حدود الدولة الواحدة لتمتد إلى عدّة دول مكتسبة بذلك طابعا عالميا، مما يجعل منها جريمة ضد النظام الدولي ومصالح الشعوب الحيوية، وأمن وسلام البشرية، وحقوق وحريات الأفراد الأساسية. ومع تصاعد هذه الأفعال وانتشارها في أرجاء العالم المختلفة واختلاطها بغيرها من الجرائم، تعددت المسميات والتعريفات وتباينت المببرات والمسببات مما أدى إلى خلط واضح في كثير من الأحيان بين مختلف الجرائم نظرا لتشابهها جميعا فيما تتسم به من عنف ووحشية وقهر للإرادة الإنسانية ومغالاة في سفك الدماء، وبما تخلقه من جو يتسم بالرعب والفزع.
والعنف هو أحد حقائق العصر الذي نعيشه، وهو في نفس الوقت أحد العناصر المكونة لجريمة الإرهاب الدولي، وأهمّ مظهر من مظاهر الجريمة السياسية فعلى المستوى الدولي أصبح الإرهاب عنصرا فعالا في عملية اتخاذ القرار السياسي، كما أصبح أسلوبا تستخدمه الدول في إكراه خصومها على الانصياع لما تفرضه أحد وسائل الصراع السياسي على المستوى الداخلي، فهو في نظر البعض وسيلة مبررة ومقبولة للرد على القهر ورد الظلم( [1]).
العنف ليس منعطف خارج الزمان والمكان، أو لحظة من التوتر المنفصل عن محددات بروزه وتحققه، إنّه بالضرورة ظاهرة لها منطلقاتها وأبعادها، والعنف باعتباره أداة ليس غايته فهو عند القوى وسيلة لتثبت واقع عدم التكافؤ وتشريع المقتضيات الضامنة لاستمراريته، وهو لدى الضعيف واحدة من الوسائل الكفيلة باسترداد مكانته وصيانة قيمه( [2]).
إلاّ أنّ التعايش الإنساني في منظومة واحدة ضرورة اجتماعية لا مناص منها، وهذا التعايش الاجتماعي، لكي يتواصل، يجب أن يخضع لقواعد ضبط اجتماعية وسياسية تأتي في مقدمتها القاعدة القانونية، وهذه القاعدة وبحكم خصائصها وأهدافها تنبذ العنف، وما كرست ومنحت علويتها وإلزاميتها إلا لحصر هذه الظاهرة وتفنينها وكبدتها وردعها من بين بقية وظائفها الجوهرية.
وتطرح مسألة الإرهاب في هذا الإطار، فقد اعتبر الإرهاب كأحد صور أو وسائل العنف التي عرفها المجتمع الإنساني منذ أمد بعيد، وتطورت هذه الوسيلة مع تطوّر المجتمعات والعلاقات الاجتماعية لوسائل وأساليب العنف أفرزتها التطورات العلمية والتكنولوجية في مجال الأسلحة واستخدام المتفجرات والقنابل مع إمكاني التحكم فيها عن بعد( [3]).
ولكن الإرهاب في مدلوله الحديث، وهو مدلول متغير متطور دوما( [4])، يتجاوز معنى الوسيلة في ارتكاب العنف عموما أو ارتكاب الجريمة بصفة خاصة إلى معنى أوسع وأشمل. فالإرهاب ينظر إليه على أساس كونه ظاهره اجتماعية وسياسية تتميز بالتعقيد وتشابك العناصر. من ثمّ، يعتقد أحد الفقهاء أن من بين العوامل الأساسية لزيادة الاهتمام بهذه الظاهرة العنف السياسي وارتبطت بنواحي عديدة من مجالات الحياة الإنسانية منها الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية والثورية( [5]).
إنّ التسليم بكون الإرهاب يمثل ظاهرة اجتماعية وسياسية معقدة وشائكة، لا ينفي علاقته الجدلي بالعنف، وبما أنّ القاعدة القانونية معينة بكبت جماح العنف وردعه، فإنّ القانون أصبح ملزما بالتعامل مع الإرهاب لمعالجته وحصره وتقنينه ومحاولة ردعه والقضاء عليه كشكل أو أسلوب مميز لهذا العنف. إلاّ أنّ تعامل رجال القانون من فقهاء ومشرعين وقضاة مع ظاهرة الإرهاب لم يتّسم بالسهولة المعهودة في معالجة وتقنين مختلف الظواهر. ذلك أنّ تقنين هذه الظاهرة أفرز عديد العوائق والمصاعب والتناقضات والتعقيدات. وأهمّ هذه العوائق والمصاعب وأبرزها، التنافر الشديد الذي بدا جليا عند السعي لتقنين الظاهرة، بين مفهوم الجريمة كفعل أو ممارسة غير شرعية وبين أبعاد هذه الظاهرة وحدودها وخصوصياتها، فإذا كانت الجريمة، كمؤسسة قانونية، لها مفهومها ووظيفتها وأهدافها الواضحة والدقيقة والمتفق حولها، فإن الإرهاب كظاهرة سياسية واجتماعية مبتذلة عبر الأزمان، وينظر إليها من زوايا مختلفة باختلاف المواقع والمصالح والثقافات، لا تتّسم بهذا الوضوح والشفافية والدقة.
وإذا كان الاتفاق حاصلا حول تعريف الجريمة بكونها فعل غير مشروع يقرر له القانون عقوبة أو تدبيرا احترازيا( [6])، فإنّ تعريف الإرهاب ليس بهذه السهولة والوضوح بمكان، فمصطلح "الإرهاب" يتسم الغموض ويفتقر إلى درجة من اليقين كما أنّه ويجسّد ظاهرة وصفها أسهل من تعريفها( [7]).
ولم تؤد صعوبة هذه المهمة وتعقيداتها إلى انحسار الفقهاء وإمساكهم عنها، بل سعى غالبيتهم إلى المحاولة، حتى تكاثرت التعريفات، إلاّ أنّ أغلب هذه التعريفات تنقسم عموما إلى اتجاهين، اتجاه أو حصري، يخرج فيها عن مفهوم الظاهرة أفعال وممارسات من الصعب استبعادها عن مدلول الإرهاب ومعناه، واتجاه ثاني شمولي، تندرج ضمن تعريفاته أفعال ومظاهر عنف لا يمكن أن تندرج ضمن مفهوم الإرهاب بالمعنى النوعي لهذه الظاهرة( [8]). إلاّ أنّ بعض الفقهاء، وخصوصا منهم فقهاء القانون، تجنبوا الخوص في غمار هذه المحاولات وسلموا بأنه ليس لمصطلح الإرهاب محتوى قانوني محدد( [9]) وفضل هؤلاء الحديث عن "مضمون الإرهاب" والمقصود "بالإرهاب" و"خصائص الإرهاب" دون تعريفه( [10]).
كما عمد أغلب الفقهاء إلى البحث عن المدلول اللغوي لمصطلح الإرهاب والتاريخ للفعل الإرهابي. أما التعريف اللغوي للإرهاب فإنّه قد يختلف من لغة إلى لغة، وفي نفس اللغة، قد يتغير المدلول. ولعلّ هذه الخاصية بالذات هي التي تعيق مسألة تعريفه من زاوية قانونية، وتصعب مهمة تقنينه وحصر مضامينه، ويرى الفقهاء أنّ هذا المدلول نشأ وتبلور وتطور عبر حقبات مختلفة في من الزمن اكتسب في حقبة منها مدلولا مخالفا، إلى أن اكتسب مدلوله الحديث، وهو مدلول مشحون بمضامين سياسية واضحة المعالم وهو ما قد يؤدي إلى تعريفات مختلفة ومتناقضة للإرهاب.
ويرجع أغلب الفقهاء هذا المدلول الذي يحمله الإرهاب إلى اللغة الفرنسية، حيث تبلور وتشكل مدلول ومعنى مصطلح Terrorisme في نهاية القرن الثامن عشر إبان الثورة الفرنسية، وبالتحديد ابتداء من سنة 1794 حيث استعمل المصطلح الأوّل مرة في سياق سياسي بحت وكلمة Terrorisme (الإرهاب) مشتقة أصلا من كلمة Terreur (الرهبة في اللغة العربية، لكنها قد لا تؤدي نفس المعنى الذي تؤدي إليه كلمة Terreur في اللغة الفرنسية). وقد فسر معجم الأكاديمية الفرنسية المنشور عام 1694 هذه المفردة كالتالي "رعب، خوف شديد: اضطراب عنيف"( [11]).
أما القاموس الحديث في اللغة الفرنسية Petit Robert فقد عرف الإرهاب بأنّه "الاستخدام الممنهج للعنف من أجل تحقيق هدف سياسي، تنقدها منظمة سياسية للتأثير على بلد ما (سواء بلدها الأم أو بلد آخر). و"الإرهاب قد يكون وسيلة للحكم( [12])".
وتجدر الملاحظة أنّ كلمة الإرهاب أو الإرهابي لا يوجد لها أثر في المعاجم العربية القديمة، وأنّ مدولوها الحديث المشحون المضامين السياسية لم يرد به ذكر في الكتب والمؤلفات العربية، خصوصا وانّ مثل هذه الدلالات حديثة نوعا ما وجاءت في سياق تاريخي معين، أما المعنى الذي حملته كلمة "الرهبة" في القرآن الكريم، فيختلف إلى أبعد حدّ عن المدلول الحديث لمصطلح الإرهاب، ذلك أنّ اغلب الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة باشتقاقاتها المختلفة تدعو إلى مخافة الله سبحانه وتعالى( [13]) والآية الوحيدة التي حملت معنى آخر للرهبة تدعو إلى التهيؤ لمحاربة أعداء الله وأعداء المؤمنين خلال الجهاد أو للدفاع عن النفس.
والجدير بالذكر أنّ أحد الفقهاء أنّ المجمع اللغوي (العربي) أقر كلمة الإرهاب ككلمة حديثة في اللغة العربية، وأساسها "رهب" أي خاف، وكلمة إرهاب هي مصدر الفعل أرهب. وأرهب بمعنى خوف( [14]) ويقال: "رهبوت خير من رحموت" بمعنى لأن ترهب خير من أن ترحم"( [15]). من هنا فإنّ ترجمة كلمة Terrorisme الشائع في اللغة العربية "الإرهاب"، ليست ترجمة صحيحة لأنّ الخوف من القتل أو الجرح لا يقترن برهبة الاحترام بل يقترن بالرعب والفزع، ولهذا فإنّ الترجمة الأقرب لهذه الكلمة هي "إرعاب" وليس إرهاب، ومع هذا فقد أقرّ المجمع العربي كلمة الإرهاب في استعمال اللغة العربية وأسقط عليها المدلول الحديث للكلمة( [16]).
لكن التفسير اللغوي لكلمة أو مصطلح الإرهاب والبحث عن معناه وتحديد دلالته القديمة والحديثة، سواء في اللغة العربية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات، لا يستقيم ويكتمل وتتوضح معانيه إلا إذا تمّ ربط هذه المعاني والدلالات بسياق تشكلها وتطورها التاريخي. حيث سعى كل فقيه أو باحث أو دارس إلى انسياب (إسقاط) المدلول الحديث للإرهاب وما يحمله من معاني ومضامين تتمحور جميعها حول الاستعمال الممنهج للعنف من أجل إدراك غايات سياسية أو إلى نظام حكم معيّن أو إلى جماعة أو منظمة أو تنظيم معين، بل وصل الأمر إلى حد أن أصبح منشأ الإرهاب وأصل ظهوره ومنيته، تهمة توجه إلى قومية دون أخرى أو إلى حضارة أو ثقافة دون أخرى.
إلاّ أنّ معضلة الإرهاب عندما طرحت للمعالجة القانونية منذ أوائل القرن العشرين سعت إلى حصر ظاهرة الإرهاب وتقنينها وردعها تنزلت في مؤتمر المؤتمرات الدولية التي كانت تعقد لتوحيد القانون الجنائي، وكذلك في نطاق الاتفاقيات الثنائية الخاصة بتسليم المجرمين( [17]). وتوجت هذه الجهود بوضع اتفاقية لتجريم الإرهاب وزجره في ظل عصبية الأمم في 16 نوفمبر 1937 على إثر اغتيال ملك يوغسلافيا "ألكسندر الأول" و"لويس بارضو" رئيس مجلس وزراء فرنسا( [18]).
وإثر انتهاء الحرب العالمية الثانية تعرضت بعض المواثيق والمعاهدات الدولية لبعض جوانب الظاهرة دون طرحها بصفة جوهرية، من بينها اتفاقية منع وقمع جرائم إبادة الجنس البشري التي وقعت تحت رعاية الأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948( [19]).
وطرحت مسألة العنف الإرهابي بأكثر وضوح، ولكن من زاوية نظر محددة ومحصورة في مجال معين وهو مجال الحروب، وذلك عندما تعرضت اتفاقيات جنيف الأربع التي وقعت سنة 1949 لممارسات العنف الإرهابي أثناء الحروب الدولية( [20]). ورغم أنّ اتفاقية دولية وقعت بطوكيو في 14 سبتمبر 1963 بشأن قمع الجرائم والأفعال الأخرى التي ترتكب على متن الطائرات، وهي جرائم اعتبرت تجسيدا لإحدى التجليات وصور الإرهاب الدولي، ورغم تعرض بعض القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لضرورة عدم دعم الدول لممارسات عنف إرهابية قد ترتكبيها تنظيمات أو عصابات معينة ضد دول أخرى، فإنّ مسألة الإرهاب الدولي لم تطرح في عمومها أمام أنظار منظمة الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية( [21]) إلا بداية من السبعينات.
وبسبب كل هذه الظروف والمعطيات والخلفيات الظاهرة أو الخفية وعبر المعالجة برزت الخلافات والتناقضات في تعريف الإرهاب الدولي وتحديد أبعاده ومضامينه عندما طرحت المسألة رسميا في الأمم المتحدة في سبتمبر 1972، حيث انقسمت الدول الأعضاء في هذه المنظمة إلى مجموعتين وتبنت كل منهما موقفا محددا من مسألة الإرهاب الدولي ومن وسائل وسبل مواجهته والتخلص من آثاره.
حيث شدّدت الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية على ضرورة ردع العنف الإرهابي الذي ترتكبه التنظيمات والجماعات لغايات وأهداف سياسية وإيديولوجية، دون حاجة للتوصل إلى تعريف قانوني وشامل للإرهاب للدولي بينما أصر الفريق المقابل الذي ضمّ أساسا دول العالم النامي مدعومة من دول اشتراكية سابقا على ضرورة إيجاد تعريف موضوعي وشامل للإرهاب الدولي. بينما أصرّ الفريق المقابل الذي ضمّ أساسا دول العالم النامي مدعومة من دول اشتراكية سابقا على ضرورة إيجاد تعريف موضوعي وشامل للإرهاب الدولي. لقد أدّى هذا الاختلاف العميق في المواقف ووجهات النظر بين الدول، وتكتلات الدول، إلى عدم التوصل إلى تعريف قانوني للإرهاب الدولي، وأحيلت مهمة البحث عن تعريف يحظى بقبول ورضا جميع الأطراف إلى لجنة خاصة منبثقة عن اللجنة السادسة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، عرفت باسم "لجنة الإرهاب الدولي"، ولكنها فشلت كذلك إثر جهود مضنية ومحاولات منكورة، في وضع أو إقرار تعريف قانوني وموضوعي للإرهاب.
إلاّ أن يغير عديد الأوضاع والظروف الدولية بداية من التسعينات أي القرن العشرين أدى بدوره إلى تبدل في موقف الأمم المتحدة تحت تأثير وضغط بعض الدولية القوية والنافذة داخل هذه المنظمة( [22])، فأصبح الإرهاب الدولي ذي قرارات الجمعية العامة لا يشمل ممارسات الدولة الرسمية، وإنما انحصر في العنف الذي يمارسه التنظيمات بدعم من الدول، وغابت عن هذه القرارات الإشارة القديمة إلى حقوق الشعوب في تقرير المصير ومقاومته الاحتلال بجميع الوسائل المتاحة. وأصبح الإرهاب حسب هذه القرارات غير مبرر في كل الأحوال والحالات( [23]).
ومع أنّ القانون الدولي عموما، والمعاهدات الدولية والقرارات الأممية بصفة خاصة لم تتوصل إلى وضع تعريف دقيق ومتفق عليه للإرهاب الدولي، فضلا عن عدم تقنين وتجريم "إرهاب الدولة" وحصر الإرهاب الدولي في فعل وممارسة الأفراد والتنظيمات فقط، فإنّ مجلس الأمن الدولي أصبح يتدخل في ردع الإرهاب عبر قراراته الملزمة، وهو ما اعتبر تجاوز لصلاحياته القانونية التي حددها ميثاق الأمم المتحدة( [24]).
أما الدول، فقد استغلت هذا المفهوم الغامض والمشوش والفضفاض للظاهرة، لكي تستعمله، كل حسب ظروفها ومستلزماتها الأمنية والسياسية في مكافحته حالات خاصة في العنف السياسي المناوئ أو المعارض لحكومات هذه الدول أو لسياساتها.
وحتى الدول التي لم تصادق حكوماتها على جميع أو أغلب المعاهدات والاتفاقيات الرادعة لبعض التجليات العنف الدولي المسمى إرهابا، ولم تثبت تشريعات جنائية استثنائية وخاصة بمكافحة الإرهاب في غياب تعريف محدد ودقيق لمفهوم الإرهاب، ومع غياب ظروف أمنية تستوجب ذلك، أصبحت ملزمة بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 تاريخ ووقوع اعتداءات إرهابية "مفجعة" على أعظم دولة في العالم، وبعد صدور القرارات الملزمة عن مجلس الأمن باتخاذ مثل هذه الإجراءات والتدابير والقوانين الاستثنائية الزمنية للقضاء على الإرهاب الدولي( [25])، حتى ولو كان ذلك على حساب مبادئ وقيم حقوق الإنسان وحرياته وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها( [26]).
ولم يبتعد موقف المشرع التونسي كثيرا عن هذا السياق والتوجه، رغم بعض الخصوصية التي أملتها الظروف الأمنية والسياسية الخاصة بوضع تونس، فبالإضافة إلى انضمامها إلى أغلب المعاهدات والاتفاقيات الدولية الرادعة لبعض التجليات، ومظاهر الدولي المسمى إرهابا دوليا، والتزامها بالقرارات الأممية الملزمة في هذا المجال( [27]). سعى المشرع التونسي عبر إصداره قانونا أول سنة 1993 كرس من خلاله مفهوما غائيا لجريمة متصفة بإرهابية( [28])، ثم إصداره قانونا ثانيا سنة 2003 أكثر توسعا وتشددا، إلى تحقيق عدة أهداف سياسية وأمنية وديبلوماسية.
إذ أنّه قام بتعريف الجريمة الإرهابية بالفصل 4 إذ نصّ: "توصف بإرهابية، كل جريمة، مهما كانت دوافعها، لها علاقة بمشروع فردي أو جماعي من شانه ترويع شخص أو مجموعة من الأشخاص، أو بث الرعب بين السكان، وذلك بقصد التأثير على سياسة الدولة وحملها على القيام بعمل أو على الامتناع من القيام به، أو الإخلال بالنظام العام أو السلم أو الأمن الدوليين، أو النيل من الأشخاص أو الأملاك، أو الضرار مقرات البعثات الديبلوماسية والقنصلية أو المنظمات الدولية، أو إلحاق أضرار جسيمة بالبيئة بما يعرض حياة المتساكنين أو صحتهم للخطر، أو الإضرار بالموارد الحيوية أو بالبنية الأساسية أو بوسائل النقل أو الاتصالات أو بالمنظومات المعلوماتية أو بالمرافق العمومية. أما الفصل 5: "تعدّ جرائم إرهابية على معنى هذا القانون الجرائم الإرهابية بطبيعتها والجرائم التي تعامل معاملتها". وأخيرا الفصل 7 من نفس القانون والذي نص على أنّه: "تعامل جرائم التحريض على الكراهية أو التعصب العنصري أو الديني معاملة الجريمة المتصفة بالإرهابية مهما كانت الوسائل المستعملة لذلك".
ولعل رغبة المشرع في تقنين الجريمة الإرهابية كانت مدفوعة بمتطلبات الأمن القومي فضلا على الرغبة في الالتفاف حول الاجتماع الدولي على مكافحة الجريمة الإرهابية والوقاية من أخطارها وهي التي أصبحت تهدد كيان الدول والمجتمعات المدنية الآمنة( [29]). وغني عن البيان، فإنّ الفقه القضاء على الصعيدين الداخلي والدولي لازال يلتمس طريقه وغير مستقر على ثوابت من شانها أن تكون مصدر تشريع للأحكام المسطرة للجريمة الإرهابية وهذا ما يفسر الأهمية التي أولاها المشرع التونسي للعقوبات الأصلية والتكميلية للجريمة الإرهابية ولبعض القواعد الإجرائية العامة الأخرى مثل إثارة وممارسة الدعوى العمومية ومسألة تسليم المجرمين وغيرها. إلاّ أنّ الجدير بالذكر أنّ المشرّع التونسي لم يحد عن موقف ووضعية القانون الدولي فيما يعلق بغموض وضبابية المفهوم القانوني للإرهاب: حيث لم يجتهد أو لم يفلح المشرّع التونسي في إقرار مفهوم واضح ودقيق وصارم للإرهاب، ولم يستطع بالتالي أن يقنع الفقه وفقه القضاء بجدوى وفعالية تكريس نص جزئي خاص يحدث جريمة إرهابية مستقلة ومميزة، من حيث نظامها الردعي، وليس من حيث مفهومها وأركانها وعناصرها التي لم تتميز عن جرائم أخرى سبق للتشريع الجنائي التونسي أنّ قننها وردعها بمقتضى نصوص جزائية سابقة. أما ولئن تباينت مفاهيم الجريمة من تشريع إلى الآخر فإنّنا نلمس بجلاء اتفاق كل التشاريع( [30]) على أنّ الغرض من الجريمة المتصفة بالإرهابية هو بث الرعب أو الذعر في النفوس وهو أشدّ درجات الخوف مما حدا برجال السياسة في الدول الغربية.
وفي نطاق برامج الوقاية من الإرهاب إلى إدراج مسألة الإرهاب في برامجهم السياسية أثناء الحملات الانتخابية بقصد إثراء الجدل السياسي وجعل المسألة في مقدمة مشاغلهم.
وأما الجدل الفقهي الذي استأثر باهتمامات شراع القانون في جلّ الدول فقد انحصر في كيفية اختيار النظام القانوني للجريمة الإرهابية. فقد ذهب شق أوّل من الفقهاء إلى اعتبار الإرهاب جريمة بذاتها لها أركانها المادية والمعنوية واعتبار الجريمة المتصفة بالإرهابية من الجرائم الجديدة والمستنبطة حديث تضاف لفصائل الجرائم العامة الأخرى.
أما الشق الثاني من الفقهاء، وفي غياب فقه قضاء متميز يختص بالجريمة الإرهابية، ادرج هذه الأخيرة من ضمن الجرائم العامة والعادية إلا أنها تمتاز عنها بنظام قانوني خاص من حيث التعريف بمفهومها، وإجراءات التتبع فيها والعقوبات، وإسناد اختصاص حكمي لهيئات قضائية، وإنشاء أجهزة أمنية مختصة لمكافحة الجريمة الإرهابية وأخيرا من حيث تسليم المجرمين. ويبدو من العسير تحديد تعريف موحد لمفهوم الجريمة المتصفة بالإرهابية نظرا للاختلاف الواضح بين الأطروحات الفقهية في تحديد المعيار المناسب للتعريف العمل الإرهابي فمنها من تبنى المفهوم والمعنى السائد حاليا للإرهاب، إذ حصر ظاهرة الإرهاب في ممارسة العنف من قبل تنظيمات وأفراد تحركهم دوافع التطرف والتعصب الديني أو الإيديولوجي أو السياسي، وهذا يعبر عن مضمون ضيق لمصطلح الإرهاب. أما المضمون الموسع فهو ما عبر عنه اتجاه ثان والذي تبناه عدة فقهاء، فهو يحيل إلى ممارسات العنف العبر الشرعية والغير المبررة من زاوية قانونية صارمة وواضحة التي تنتهجها أجهزة رسمية لبعض الدول، زمن السلم أو زمن الحرب. وأخيرا بما أن غالبية فقهاء القانون يتعرضون للإرهاب كظاهرة إجرامية، وأنّ غالبية المشرعين الوطنيين سعوا في تقنين الظاهرة الإرهابية وتجسيدها في شكل جريمة مستقلة بأركانها وعناصرها ونظامها الردعي الاستثنائي والصارم دون أن يتوصلوا إلى تحديد تعريفها القانوني، وكذلك فعلت بعض المعاهدات والاتفاقيات الدولية والإقليمية، فإنّه يجدر بنا الانطلاق من هذه النتيجة أو المسلمة لنبحث عن مفهوم غير محدد لجريمة إرهابية (جزء أوّل) لنتطرق في مرحلة ثانية انعكاسات وتداعيات هذا المفهوم غير المحدد للجريمة على نظامها الردعي الذي يبدو أنه نظام ردعي متذبذب (الجزء الثاني).
الجزء الأول: مفهوم غير محدد لجريمة إرهابية (tn)
الجزء الثاني: نظام ردعي متذبذب للجريمة الارهابية (tn).
الهوامش:
[1] - أحمد محمد رفعت، صالح بكر الطيار: الإرهاب الدولي: مركز الدراسات العربي الأوروبي، 1998 ص 8-9. [2] - محمد مالكي: العنف في العلاقات الدولية: "قراءة في تاريخ المفهوم ودلالته المعاصرة" مجلة الوحدة العدد 67 أفريل 1990 ص 6. [3] - نبيل أحمد حلمي: الإرهاب الدولي وفقا لقواعد القانون الدولي العام. دار النهضة العربية: القاهرة 1988 ص 3. [4] - صلاح الدين عامر: المقاومة الشعبية المسلحة في القانون الدولي العام: دار الفكر العربي: القاهرة 177 ص. [5] - نبيل أحمد حلمي: مرجع سابق ص 4. [6] - محمود نجيب حسني: شرح قانون العقوبات اللبناني: القسم العام. دار النهضة العربية بيروت 1988 ص 49. [7] - محمد عزيز شكري: الإرهاب الدولي: دراسة قانونية ناقدة: دار العلم للملايين: بيروت 1991 ص 45. [8] - أودينيس العكرة: الإرهاب السياسي: يبحث في أصول الظاهرة وأبعادها الإنسانية: دار الطليعة للطباعة والنشر: بيروت 1983 ص 13. [9] - صلاح الدين عامر: مرجع سابق ص 485 [10] - من ناحية: لن نجازف بطرح أن تعريف وسوف نسعى إلى التعرض إلى أهمّ التعريفات الفقهية والقانونية. [11] - Dictionnaire de l’Académie Française, dédie au Rogal, Paris. Chez Jean Batstite Loignard T2. 1ère Ed 1894. P 554. Cité Par El Akra (A) Op.cit p 28. [12] - Dictionnaire. Le Petit Robert, Paris. Ed 1993 P 2505. [13] - ردت كلمة الرهبة وبعض مشتقاتها من أمثال: "استرهبوهم"، "يرهبون"، "الرهب" في الآيات التالية من القرآن الكريم: سورة البقرة، الآية 40، سورة النحل، آية 51، سورة الأعراف: آية 154، سورة أنبياء، آية 90، سورة الحشر: آية 13، سورة القصص: آية 32، سورة الأعراف: آية 166. [14] - جاء معنى الإرهاب في لسان العرب كالتالي: الإرهاب من أرهب أي أخاف وأفزع قاموس لسان العربي لابن منظور: المجلد العاشر، دار صادر بيروت 2000 ص 240. [15] - مختار الصحاح: طبعة 11 سنة 1962 ص 256. [16] - أحمد جلال عز الدين: الإرهاب والعنف السياسي: كتاب الحرية رقم 10 – القاهرة 1986 ص 21 أورده نبيل أحمد حلمي: المرجع السابق. [17] - صلاح الدين عامر: مرجع سابق ص 488. [18] - عبد العزيز مخيمر عبد الهادي: الإرهاب الدولي مع دراسة للاتفاقيات الدولية والقرارات الصادرة عن المنظمات الدولية: دار النهضة العربية – القاهرة. [19] - محمد سليم محمد غزي: جريمة إبادة الجنس البشري: مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر، الإسكندرية 1982 ص 1984. [20] - وقع تدعيم هذه الاتفاقيات الأربع ببروتوكلين إضافين ملحقين بها سنة 1977. كما تجدر الإشارة إلى أنّ مسألة الإرهاب طرحت للدرس في الخمسينات من القرن العشرين على إثر تكليف الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة خاصة بإعداد مشروع مدونة أو مجلة لتقنين وردع الجرائم الدولية المخلة بالأمن والسلم الدوليين. [21] - نذكر على سبيل المثال المنظمة الدولية للطيران المدني التي أعدت وأقرت ثلاثة اتفاقيات دولية في مكافحة وقمع جرائم تتعلق بمجال الطيران المدني سنوات 1963-1970 و1971. [22] - Bemantar (Ab) : L’onu après la guerre froide. L’impératif de réforme. Lasbah édition Alger 2002 p 8 et 55. [23] - lحمد عزيز شكري: "الإرهاب الدولي في مفهومه الجديد" مجلة المحامون: (تصدر عن نقابة المحامي بالجمهورية العربية السورية) السنة 67 العددان 3 و4، 2000 ص 222. [24] - Condo Reille (L1 « Les attentats du 11 septembre et leurs suites ». Ori va le dt Intale ? » R.G D.I P 2001 4ème Tr P 835. [25] - القرار عدد 1373 صادر عن مجلس الأمن الدولي في 28 سبتمبر 2001. [26] - مقدمة التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية للعام 2002 تحت عنوان "العدل وليس الانتقام" I وII. [27] - مداولات مجلس النواب عدد 6 ليوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2003 ص 135.
[29] - جرائم الإرهاب في القانون الجنائي: الأستاذ بلقاسم كريد: المساعد الأول للرئيس العام بمحكمة الاستئناف بصفاقس. [30] - مرجع سابق: أ. "بلقاسم كريد".
بحث حول الجريمة الارهابية في القانون التونسي م
الجزء الأول: مفهوم غير محدد لجريمة إرهابية (tn)
الفصل الأول: فشل محاولات إقرار تعريف قانوني للإرهاب (tn)
الفصل الثاني: خصوصيات الظاهرة الإرهابية كمعيار ضابط لمفهوم مستقل للجريمة الإرهابية (tn)
الجزء الثاني: نظام ردعي متذبذب للجريمة الارهابية (tn).
الفصل الأول: العجز عن تكريس نظام ردعي فعال ومتناغم في مكافحة الجرائم الإرهابية (tn)
الفصل الثاني: تحول كبير في النظام الإجرائي الردعي لمكافحة الإرهاب وآثاره الخطيرة (tn)
المقدمــة.
بسم الله الرحمان الرحيم
"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل اله يوف إليكم وأنتم لا تطلعون وإن جنحوا السلم فأجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم". صدق الله العظيم- آية 60 سورة الأنفال
اتسعت دائرة العنف في الآونة الاخيرة وشهد مسرح الأحداث الدولية العديد من النشاطات الإرهابية التي تتجاوز آثارها حدود الدولة الواحدة لتمتد إلى عدّة دول مكتسبة بذلك طابعا عالميا، مما يجعل منها جريمة ضد النظام الدولي ومصالح الشعوب الحيوية، وأمن وسلام البشرية، وحقوق وحريات الأفراد الأساسية. ومع تصاعد هذه الأفعال وانتشارها في أرجاء العالم المختلفة واختلاطها بغيرها من الجرائم، تعددت المسميات والتعريفات وتباينت المببرات والمسببات مما أدى إلى خلط واضح في كثير من الأحيان بين مختلف الجرائم نظرا لتشابهها جميعا فيما تتسم به من عنف ووحشية وقهر للإرادة الإنسانية ومغالاة في سفك الدماء، وبما تخلقه من جو يتسم بالرعب والفزع.
والعنف هو أحد حقائق العصر الذي نعيشه، وهو في نفس الوقت أحد العناصر المكونة لجريمة الإرهاب الدولي، وأهمّ مظهر من مظاهر الجريمة السياسية فعلى المستوى الدولي أصبح الإرهاب عنصرا فعالا في عملية اتخاذ القرار السياسي، كما أصبح أسلوبا تستخدمه الدول في إكراه خصومها على الانصياع لما تفرضه أحد وسائل الصراع السياسي على المستوى الداخلي، فهو في نظر البعض وسيلة مبررة ومقبولة للرد على القهر ورد الظلم( [1]).
العنف ليس منعطف خارج الزمان والمكان، أو لحظة من التوتر المنفصل عن محددات بروزه وتحققه، إنّه بالضرورة ظاهرة لها منطلقاتها وأبعادها، والعنف باعتباره أداة ليس غايته فهو عند القوى وسيلة لتثبت واقع عدم التكافؤ وتشريع المقتضيات الضامنة لاستمراريته، وهو لدى الضعيف واحدة من الوسائل الكفيلة باسترداد مكانته وصيانة قيمه( [2]).
إلاّ أنّ التعايش الإنساني في منظومة واحدة ضرورة اجتماعية لا مناص منها، وهذا التعايش الاجتماعي، لكي يتواصل، يجب أن يخضع لقواعد ضبط اجتماعية وسياسية تأتي في مقدمتها القاعدة القانونية، وهذه القاعدة وبحكم خصائصها وأهدافها تنبذ العنف، وما كرست ومنحت علويتها وإلزاميتها إلا لحصر هذه الظاهرة وتفنينها وكبدتها وردعها من بين بقية وظائفها الجوهرية.
وتطرح مسألة الإرهاب في هذا الإطار، فقد اعتبر الإرهاب كأحد صور أو وسائل العنف التي عرفها المجتمع الإنساني منذ أمد بعيد، وتطورت هذه الوسيلة مع تطوّر المجتمعات والعلاقات الاجتماعية لوسائل وأساليب العنف أفرزتها التطورات العلمية والتكنولوجية في مجال الأسلحة واستخدام المتفجرات والقنابل مع إمكاني التحكم فيها عن بعد( [3]).
ولكن الإرهاب في مدلوله الحديث، وهو مدلول متغير متطور دوما( [4])، يتجاوز معنى الوسيلة في ارتكاب العنف عموما أو ارتكاب الجريمة بصفة خاصة إلى معنى أوسع وأشمل. فالإرهاب ينظر إليه على أساس كونه ظاهره اجتماعية وسياسية تتميز بالتعقيد وتشابك العناصر. من ثمّ، يعتقد أحد الفقهاء أن من بين العوامل الأساسية لزيادة الاهتمام بهذه الظاهرة العنف السياسي وارتبطت بنواحي عديدة من مجالات الحياة الإنسانية منها الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية والثورية( [5]).
إنّ التسليم بكون الإرهاب يمثل ظاهرة اجتماعية وسياسية معقدة وشائكة، لا ينفي علاقته الجدلي بالعنف، وبما أنّ القاعدة القانونية معينة بكبت جماح العنف وردعه، فإنّ القانون أصبح ملزما بالتعامل مع الإرهاب لمعالجته وحصره وتقنينه ومحاولة ردعه والقضاء عليه كشكل أو أسلوب مميز لهذا العنف. إلاّ أنّ تعامل رجال القانون من فقهاء ومشرعين وقضاة مع ظاهرة الإرهاب لم يتّسم بالسهولة المعهودة في معالجة وتقنين مختلف الظواهر. ذلك أنّ تقنين هذه الظاهرة أفرز عديد العوائق والمصاعب والتناقضات والتعقيدات. وأهمّ هذه العوائق والمصاعب وأبرزها، التنافر الشديد الذي بدا جليا عند السعي لتقنين الظاهرة، بين مفهوم الجريمة كفعل أو ممارسة غير شرعية وبين أبعاد هذه الظاهرة وحدودها وخصوصياتها، فإذا كانت الجريمة، كمؤسسة قانونية، لها مفهومها ووظيفتها وأهدافها الواضحة والدقيقة والمتفق حولها، فإن الإرهاب كظاهرة سياسية واجتماعية مبتذلة عبر الأزمان، وينظر إليها من زوايا مختلفة باختلاف المواقع والمصالح والثقافات، لا تتّسم بهذا الوضوح والشفافية والدقة.
وإذا كان الاتفاق حاصلا حول تعريف الجريمة بكونها فعل غير مشروع يقرر له القانون عقوبة أو تدبيرا احترازيا( [6])، فإنّ تعريف الإرهاب ليس بهذه السهولة والوضوح بمكان، فمصطلح "الإرهاب" يتسم الغموض ويفتقر إلى درجة من اليقين كما أنّه ويجسّد ظاهرة وصفها أسهل من تعريفها( [7]).
ولم تؤد صعوبة هذه المهمة وتعقيداتها إلى انحسار الفقهاء وإمساكهم عنها، بل سعى غالبيتهم إلى المحاولة، حتى تكاثرت التعريفات، إلاّ أنّ أغلب هذه التعريفات تنقسم عموما إلى اتجاهين، اتجاه أو حصري، يخرج فيها عن مفهوم الظاهرة أفعال وممارسات من الصعب استبعادها عن مدلول الإرهاب ومعناه، واتجاه ثاني شمولي، تندرج ضمن تعريفاته أفعال ومظاهر عنف لا يمكن أن تندرج ضمن مفهوم الإرهاب بالمعنى النوعي لهذه الظاهرة( [8]). إلاّ أنّ بعض الفقهاء، وخصوصا منهم فقهاء القانون، تجنبوا الخوص في غمار هذه المحاولات وسلموا بأنه ليس لمصطلح الإرهاب محتوى قانوني محدد( [9]) وفضل هؤلاء الحديث عن "مضمون الإرهاب" والمقصود "بالإرهاب" و"خصائص الإرهاب" دون تعريفه( [10]).
كما عمد أغلب الفقهاء إلى البحث عن المدلول اللغوي لمصطلح الإرهاب والتاريخ للفعل الإرهابي. أما التعريف اللغوي للإرهاب فإنّه قد يختلف من لغة إلى لغة، وفي نفس اللغة، قد يتغير المدلول. ولعلّ هذه الخاصية بالذات هي التي تعيق مسألة تعريفه من زاوية قانونية، وتصعب مهمة تقنينه وحصر مضامينه، ويرى الفقهاء أنّ هذا المدلول نشأ وتبلور وتطور عبر حقبات مختلفة في من الزمن اكتسب في حقبة منها مدلولا مخالفا، إلى أن اكتسب مدلوله الحديث، وهو مدلول مشحون بمضامين سياسية واضحة المعالم وهو ما قد يؤدي إلى تعريفات مختلفة ومتناقضة للإرهاب.
ويرجع أغلب الفقهاء هذا المدلول الذي يحمله الإرهاب إلى اللغة الفرنسية، حيث تبلور وتشكل مدلول ومعنى مصطلح Terrorisme في نهاية القرن الثامن عشر إبان الثورة الفرنسية، وبالتحديد ابتداء من سنة 1794 حيث استعمل المصطلح الأوّل مرة في سياق سياسي بحت وكلمة Terrorisme (الإرهاب) مشتقة أصلا من كلمة Terreur (الرهبة في اللغة العربية، لكنها قد لا تؤدي نفس المعنى الذي تؤدي إليه كلمة Terreur في اللغة الفرنسية). وقد فسر معجم الأكاديمية الفرنسية المنشور عام 1694 هذه المفردة كالتالي "رعب، خوف شديد: اضطراب عنيف"( [11]).
أما القاموس الحديث في اللغة الفرنسية Petit Robert فقد عرف الإرهاب بأنّه "الاستخدام الممنهج للعنف من أجل تحقيق هدف سياسي، تنقدها منظمة سياسية للتأثير على بلد ما (سواء بلدها الأم أو بلد آخر). و"الإرهاب قد يكون وسيلة للحكم( [12])".
وتجدر الملاحظة أنّ كلمة الإرهاب أو الإرهابي لا يوجد لها أثر في المعاجم العربية القديمة، وأنّ مدولوها الحديث المشحون المضامين السياسية لم يرد به ذكر في الكتب والمؤلفات العربية، خصوصا وانّ مثل هذه الدلالات حديثة نوعا ما وجاءت في سياق تاريخي معين، أما المعنى الذي حملته كلمة "الرهبة" في القرآن الكريم، فيختلف إلى أبعد حدّ عن المدلول الحديث لمصطلح الإرهاب، ذلك أنّ اغلب الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة باشتقاقاتها المختلفة تدعو إلى مخافة الله سبحانه وتعالى( [13]) والآية الوحيدة التي حملت معنى آخر للرهبة تدعو إلى التهيؤ لمحاربة أعداء الله وأعداء المؤمنين خلال الجهاد أو للدفاع عن النفس.
والجدير بالذكر أنّ أحد الفقهاء أنّ المجمع اللغوي (العربي) أقر كلمة الإرهاب ككلمة حديثة في اللغة العربية، وأساسها "رهب" أي خاف، وكلمة إرهاب هي مصدر الفعل أرهب. وأرهب بمعنى خوف( [14]) ويقال: "رهبوت خير من رحموت" بمعنى لأن ترهب خير من أن ترحم"( [15]). من هنا فإنّ ترجمة كلمة Terrorisme الشائع في اللغة العربية "الإرهاب"، ليست ترجمة صحيحة لأنّ الخوف من القتل أو الجرح لا يقترن برهبة الاحترام بل يقترن بالرعب والفزع، ولهذا فإنّ الترجمة الأقرب لهذه الكلمة هي "إرعاب" وليس إرهاب، ومع هذا فقد أقرّ المجمع العربي كلمة الإرهاب في استعمال اللغة العربية وأسقط عليها المدلول الحديث للكلمة( [16]).
لكن التفسير اللغوي لكلمة أو مصطلح الإرهاب والبحث عن معناه وتحديد دلالته القديمة والحديثة، سواء في اللغة العربية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات، لا يستقيم ويكتمل وتتوضح معانيه إلا إذا تمّ ربط هذه المعاني والدلالات بسياق تشكلها وتطورها التاريخي. حيث سعى كل فقيه أو باحث أو دارس إلى انسياب (إسقاط) المدلول الحديث للإرهاب وما يحمله من معاني ومضامين تتمحور جميعها حول الاستعمال الممنهج للعنف من أجل إدراك غايات سياسية أو إلى نظام حكم معيّن أو إلى جماعة أو منظمة أو تنظيم معين، بل وصل الأمر إلى حد أن أصبح منشأ الإرهاب وأصل ظهوره ومنيته، تهمة توجه إلى قومية دون أخرى أو إلى حضارة أو ثقافة دون أخرى.
إلاّ أنّ معضلة الإرهاب عندما طرحت للمعالجة القانونية منذ أوائل القرن العشرين سعت إلى حصر ظاهرة الإرهاب وتقنينها وردعها تنزلت في مؤتمر المؤتمرات الدولية التي كانت تعقد لتوحيد القانون الجنائي، وكذلك في نطاق الاتفاقيات الثنائية الخاصة بتسليم المجرمين( [17]). وتوجت هذه الجهود بوضع اتفاقية لتجريم الإرهاب وزجره في ظل عصبية الأمم في 16 نوفمبر 1937 على إثر اغتيال ملك يوغسلافيا "ألكسندر الأول" و"لويس بارضو" رئيس مجلس وزراء فرنسا( [18]).
وإثر انتهاء الحرب العالمية الثانية تعرضت بعض المواثيق والمعاهدات الدولية لبعض جوانب الظاهرة دون طرحها بصفة جوهرية، من بينها اتفاقية منع وقمع جرائم إبادة الجنس البشري التي وقعت تحت رعاية الأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948( [19]).
وطرحت مسألة العنف الإرهابي بأكثر وضوح، ولكن من زاوية نظر محددة ومحصورة في مجال معين وهو مجال الحروب، وذلك عندما تعرضت اتفاقيات جنيف الأربع التي وقعت سنة 1949 لممارسات العنف الإرهابي أثناء الحروب الدولية( [20]). ورغم أنّ اتفاقية دولية وقعت بطوكيو في 14 سبتمبر 1963 بشأن قمع الجرائم والأفعال الأخرى التي ترتكب على متن الطائرات، وهي جرائم اعتبرت تجسيدا لإحدى التجليات وصور الإرهاب الدولي، ورغم تعرض بعض القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لضرورة عدم دعم الدول لممارسات عنف إرهابية قد ترتكبيها تنظيمات أو عصابات معينة ضد دول أخرى، فإنّ مسألة الإرهاب الدولي لم تطرح في عمومها أمام أنظار منظمة الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية( [21]) إلا بداية من السبعينات.
وبسبب كل هذه الظروف والمعطيات والخلفيات الظاهرة أو الخفية وعبر المعالجة برزت الخلافات والتناقضات في تعريف الإرهاب الدولي وتحديد أبعاده ومضامينه عندما طرحت المسألة رسميا في الأمم المتحدة في سبتمبر 1972، حيث انقسمت الدول الأعضاء في هذه المنظمة إلى مجموعتين وتبنت كل منهما موقفا محددا من مسألة الإرهاب الدولي ومن وسائل وسبل مواجهته والتخلص من آثاره.
حيث شدّدت الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية على ضرورة ردع العنف الإرهابي الذي ترتكبه التنظيمات والجماعات لغايات وأهداف سياسية وإيديولوجية، دون حاجة للتوصل إلى تعريف قانوني وشامل للإرهاب للدولي بينما أصر الفريق المقابل الذي ضمّ أساسا دول العالم النامي مدعومة من دول اشتراكية سابقا على ضرورة إيجاد تعريف موضوعي وشامل للإرهاب الدولي. بينما أصرّ الفريق المقابل الذي ضمّ أساسا دول العالم النامي مدعومة من دول اشتراكية سابقا على ضرورة إيجاد تعريف موضوعي وشامل للإرهاب الدولي. لقد أدّى هذا الاختلاف العميق في المواقف ووجهات النظر بين الدول، وتكتلات الدول، إلى عدم التوصل إلى تعريف قانوني للإرهاب الدولي، وأحيلت مهمة البحث عن تعريف يحظى بقبول ورضا جميع الأطراف إلى لجنة خاصة منبثقة عن اللجنة السادسة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، عرفت باسم "لجنة الإرهاب الدولي"، ولكنها فشلت كذلك إثر جهود مضنية ومحاولات منكورة، في وضع أو إقرار تعريف قانوني وموضوعي للإرهاب.
إلاّ أن يغير عديد الأوضاع والظروف الدولية بداية من التسعينات أي القرن العشرين أدى بدوره إلى تبدل في موقف الأمم المتحدة تحت تأثير وضغط بعض الدولية القوية والنافذة داخل هذه المنظمة( [22])، فأصبح الإرهاب الدولي ذي قرارات الجمعية العامة لا يشمل ممارسات الدولة الرسمية، وإنما انحصر في العنف الذي يمارسه التنظيمات بدعم من الدول، وغابت عن هذه القرارات الإشارة القديمة إلى حقوق الشعوب في تقرير المصير ومقاومته الاحتلال بجميع الوسائل المتاحة. وأصبح الإرهاب حسب هذه القرارات غير مبرر في كل الأحوال والحالات( [23]).
ومع أنّ القانون الدولي عموما، والمعاهدات الدولية والقرارات الأممية بصفة خاصة لم تتوصل إلى وضع تعريف دقيق ومتفق عليه للإرهاب الدولي، فضلا عن عدم تقنين وتجريم "إرهاب الدولة" وحصر الإرهاب الدولي في فعل وممارسة الأفراد والتنظيمات فقط، فإنّ مجلس الأمن الدولي أصبح يتدخل في ردع الإرهاب عبر قراراته الملزمة، وهو ما اعتبر تجاوز لصلاحياته القانونية التي حددها ميثاق الأمم المتحدة( [24]).
أما الدول، فقد استغلت هذا المفهوم الغامض والمشوش والفضفاض للظاهرة، لكي تستعمله، كل حسب ظروفها ومستلزماتها الأمنية والسياسية في مكافحته حالات خاصة في العنف السياسي المناوئ أو المعارض لحكومات هذه الدول أو لسياساتها.
وحتى الدول التي لم تصادق حكوماتها على جميع أو أغلب المعاهدات والاتفاقيات الرادعة لبعض التجليات العنف الدولي المسمى إرهابا، ولم تثبت تشريعات جنائية استثنائية وخاصة بمكافحة الإرهاب في غياب تعريف محدد ودقيق لمفهوم الإرهاب، ومع غياب ظروف أمنية تستوجب ذلك، أصبحت ملزمة بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 تاريخ ووقوع اعتداءات إرهابية "مفجعة" على أعظم دولة في العالم، وبعد صدور القرارات الملزمة عن مجلس الأمن باتخاذ مثل هذه الإجراءات والتدابير والقوانين الاستثنائية الزمنية للقضاء على الإرهاب الدولي( [25])، حتى ولو كان ذلك على حساب مبادئ وقيم حقوق الإنسان وحرياته وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها( [26]).
ولم يبتعد موقف المشرع التونسي كثيرا عن هذا السياق والتوجه، رغم بعض الخصوصية التي أملتها الظروف الأمنية والسياسية الخاصة بوضع تونس، فبالإضافة إلى انضمامها إلى أغلب المعاهدات والاتفاقيات الدولية الرادعة لبعض التجليات، ومظاهر الدولي المسمى إرهابا دوليا، والتزامها بالقرارات الأممية الملزمة في هذا المجال( [27]). سعى المشرع التونسي عبر إصداره قانونا أول سنة 1993 كرس من خلاله مفهوما غائيا لجريمة متصفة بإرهابية( [28])، ثم إصداره قانونا ثانيا سنة 2003 أكثر توسعا وتشددا، إلى تحقيق عدة أهداف سياسية وأمنية وديبلوماسية.
إذ أنّه قام بتعريف الجريمة الإرهابية بالفصل 4 إذ نصّ: "توصف بإرهابية، كل جريمة، مهما كانت دوافعها، لها علاقة بمشروع فردي أو جماعي من شانه ترويع شخص أو مجموعة من الأشخاص، أو بث الرعب بين السكان، وذلك بقصد التأثير على سياسة الدولة وحملها على القيام بعمل أو على الامتناع من القيام به، أو الإخلال بالنظام العام أو السلم أو الأمن الدوليين، أو النيل من الأشخاص أو الأملاك، أو الضرار مقرات البعثات الديبلوماسية والقنصلية أو المنظمات الدولية، أو إلحاق أضرار جسيمة بالبيئة بما يعرض حياة المتساكنين أو صحتهم للخطر، أو الإضرار بالموارد الحيوية أو بالبنية الأساسية أو بوسائل النقل أو الاتصالات أو بالمنظومات المعلوماتية أو بالمرافق العمومية. أما الفصل 5: "تعدّ جرائم إرهابية على معنى هذا القانون الجرائم الإرهابية بطبيعتها والجرائم التي تعامل معاملتها". وأخيرا الفصل 7 من نفس القانون والذي نص على أنّه: "تعامل جرائم التحريض على الكراهية أو التعصب العنصري أو الديني معاملة الجريمة المتصفة بالإرهابية مهما كانت الوسائل المستعملة لذلك".
ولعل رغبة المشرع في تقنين الجريمة الإرهابية كانت مدفوعة بمتطلبات الأمن القومي فضلا على الرغبة في الالتفاف حول الاجتماع الدولي على مكافحة الجريمة الإرهابية والوقاية من أخطارها وهي التي أصبحت تهدد كيان الدول والمجتمعات المدنية الآمنة( [29]). وغني عن البيان، فإنّ الفقه القضاء على الصعيدين الداخلي والدولي لازال يلتمس طريقه وغير مستقر على ثوابت من شانها أن تكون مصدر تشريع للأحكام المسطرة للجريمة الإرهابية وهذا ما يفسر الأهمية التي أولاها المشرع التونسي للعقوبات الأصلية والتكميلية للجريمة الإرهابية ولبعض القواعد الإجرائية العامة الأخرى مثل إثارة وممارسة الدعوى العمومية ومسألة تسليم المجرمين وغيرها. إلاّ أنّ الجدير بالذكر أنّ المشرّع التونسي لم يحد عن موقف ووضعية القانون الدولي فيما يعلق بغموض وضبابية المفهوم القانوني للإرهاب: حيث لم يجتهد أو لم يفلح المشرّع التونسي في إقرار مفهوم واضح ودقيق وصارم للإرهاب، ولم يستطع بالتالي أن يقنع الفقه وفقه القضاء بجدوى وفعالية تكريس نص جزئي خاص يحدث جريمة إرهابية مستقلة ومميزة، من حيث نظامها الردعي، وليس من حيث مفهومها وأركانها وعناصرها التي لم تتميز عن جرائم أخرى سبق للتشريع الجنائي التونسي أنّ قننها وردعها بمقتضى نصوص جزائية سابقة. أما ولئن تباينت مفاهيم الجريمة من تشريع إلى الآخر فإنّنا نلمس بجلاء اتفاق كل التشاريع( [30]) على أنّ الغرض من الجريمة المتصفة بالإرهابية هو بث الرعب أو الذعر في النفوس وهو أشدّ درجات الخوف مما حدا برجال السياسة في الدول الغربية.
وفي نطاق برامج الوقاية من الإرهاب إلى إدراج مسألة الإرهاب في برامجهم السياسية أثناء الحملات الانتخابية بقصد إثراء الجدل السياسي وجعل المسألة في مقدمة مشاغلهم.
وأما الجدل الفقهي الذي استأثر باهتمامات شراع القانون في جلّ الدول فقد انحصر في كيفية اختيار النظام القانوني للجريمة الإرهابية. فقد ذهب شق أوّل من الفقهاء إلى اعتبار الإرهاب جريمة بذاتها لها أركانها المادية والمعنوية واعتبار الجريمة المتصفة بالإرهابية من الجرائم الجديدة والمستنبطة حديث تضاف لفصائل الجرائم العامة الأخرى.
أما الشق الثاني من الفقهاء، وفي غياب فقه قضاء متميز يختص بالجريمة الإرهابية، ادرج هذه الأخيرة من ضمن الجرائم العامة والعادية إلا أنها تمتاز عنها بنظام قانوني خاص من حيث التعريف بمفهومها، وإجراءات التتبع فيها والعقوبات، وإسناد اختصاص حكمي لهيئات قضائية، وإنشاء أجهزة أمنية مختصة لمكافحة الجريمة الإرهابية وأخيرا من حيث تسليم المجرمين. ويبدو من العسير تحديد تعريف موحد لمفهوم الجريمة المتصفة بالإرهابية نظرا للاختلاف الواضح بين الأطروحات الفقهية في تحديد المعيار المناسب للتعريف العمل الإرهابي فمنها من تبنى المفهوم والمعنى السائد حاليا للإرهاب، إذ حصر ظاهرة الإرهاب في ممارسة العنف من قبل تنظيمات وأفراد تحركهم دوافع التطرف والتعصب الديني أو الإيديولوجي أو السياسي، وهذا يعبر عن مضمون ضيق لمصطلح الإرهاب. أما المضمون الموسع فهو ما عبر عنه اتجاه ثان والذي تبناه عدة فقهاء، فهو يحيل إلى ممارسات العنف العبر الشرعية والغير المبررة من زاوية قانونية صارمة وواضحة التي تنتهجها أجهزة رسمية لبعض الدول، زمن السلم أو زمن الحرب. وأخيرا بما أن غالبية فقهاء القانون يتعرضون للإرهاب كظاهرة إجرامية، وأنّ غالبية المشرعين الوطنيين سعوا في تقنين الظاهرة الإرهابية وتجسيدها في شكل جريمة مستقلة بأركانها وعناصرها ونظامها الردعي الاستثنائي والصارم دون أن يتوصلوا إلى تحديد تعريفها القانوني، وكذلك فعلت بعض المعاهدات والاتفاقيات الدولية والإقليمية، فإنّه يجدر بنا الانطلاق من هذه النتيجة أو المسلمة لنبحث عن مفهوم غير محدد لجريمة إرهابية (جزء أوّل) لنتطرق في مرحلة ثانية انعكاسات وتداعيات هذا المفهوم غير المحدد للجريمة على نظامها الردعي الذي يبدو أنه نظام ردعي متذبذب (الجزء الثاني).
الجزء الأول: مفهوم غير محدد لجريمة إرهابية (tn)
الجزء الثاني: نظام ردعي متذبذب للجريمة الارهابية (tn).
الهوامش:
[1] - أحمد محمد رفعت، صالح بكر الطيار: الإرهاب الدولي: مركز الدراسات العربي الأوروبي، 1998 ص 8-9. [2] - محمد مالكي: العنف في العلاقات الدولية: "قراءة في تاريخ المفهوم ودلالته المعاصرة" مجلة الوحدة العدد 67 أفريل 1990 ص 6. [3] - نبيل أحمد حلمي: الإرهاب الدولي وفقا لقواعد القانون الدولي العام. دار النهضة العربية: القاهرة 1988 ص 3. [4] - صلاح الدين عامر: المقاومة الشعبية المسلحة في القانون الدولي العام: دار الفكر العربي: القاهرة 177 ص. [5] - نبيل أحمد حلمي: مرجع سابق ص 4. [6] - محمود نجيب حسني: شرح قانون العقوبات اللبناني: القسم العام. دار النهضة العربية بيروت 1988 ص 49. [7] - محمد عزيز شكري: الإرهاب الدولي: دراسة قانونية ناقدة: دار العلم للملايين: بيروت 1991 ص 45. [8] - أودينيس العكرة: الإرهاب السياسي: يبحث في أصول الظاهرة وأبعادها الإنسانية: دار الطليعة للطباعة والنشر: بيروت 1983 ص 13. [9] - صلاح الدين عامر: مرجع سابق ص 485 [10] - من ناحية: لن نجازف بطرح أن تعريف وسوف نسعى إلى التعرض إلى أهمّ التعريفات الفقهية والقانونية. [11] - Dictionnaire de l’Académie Française, dédie au Rogal, Paris. Chez Jean Batstite Loignard T2. 1ère Ed 1894. P 554. Cité Par El Akra (A) Op.cit p 28. [12] - Dictionnaire. Le Petit Robert, Paris. Ed 1993 P 2505. [13] - ردت كلمة الرهبة وبعض مشتقاتها من أمثال: "استرهبوهم"، "يرهبون"، "الرهب" في الآيات التالية من القرآن الكريم: سورة البقرة، الآية 40، سورة النحل، آية 51، سورة الأعراف: آية 154، سورة أنبياء، آية 90، سورة الحشر: آية 13، سورة القصص: آية 32، سورة الأعراف: آية 166. [14] - جاء معنى الإرهاب في لسان العرب كالتالي: الإرهاب من أرهب أي أخاف وأفزع قاموس لسان العربي لابن منظور: المجلد العاشر، دار صادر بيروت 2000 ص 240. [15] - مختار الصحاح: طبعة 11 سنة 1962 ص 256. [16] - أحمد جلال عز الدين: الإرهاب والعنف السياسي: كتاب الحرية رقم 10 – القاهرة 1986 ص 21 أورده نبيل أحمد حلمي: المرجع السابق. [17] - صلاح الدين عامر: مرجع سابق ص 488. [18] - عبد العزيز مخيمر عبد الهادي: الإرهاب الدولي مع دراسة للاتفاقيات الدولية والقرارات الصادرة عن المنظمات الدولية: دار النهضة العربية – القاهرة. [19] - محمد سليم محمد غزي: جريمة إبادة الجنس البشري: مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر، الإسكندرية 1982 ص 1984. [20] - وقع تدعيم هذه الاتفاقيات الأربع ببروتوكلين إضافين ملحقين بها سنة 1977. كما تجدر الإشارة إلى أنّ مسألة الإرهاب طرحت للدرس في الخمسينات من القرن العشرين على إثر تكليف الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة خاصة بإعداد مشروع مدونة أو مجلة لتقنين وردع الجرائم الدولية المخلة بالأمن والسلم الدوليين. [21] - نذكر على سبيل المثال المنظمة الدولية للطيران المدني التي أعدت وأقرت ثلاثة اتفاقيات دولية في مكافحة وقمع جرائم تتعلق بمجال الطيران المدني سنوات 1963-1970 و1971. [22] - Bemantar (Ab) : L’onu après la guerre froide. L’impératif de réforme. Lasbah édition Alger 2002 p 8 et 55. [23] - lحمد عزيز شكري: "الإرهاب الدولي في مفهومه الجديد" مجلة المحامون: (تصدر عن نقابة المحامي بالجمهورية العربية السورية) السنة 67 العددان 3 و4، 2000 ص 222. [24] - Condo Reille (L1 « Les attentats du 11 septembre et leurs suites ». Ori va le dt Intale ? » R.G D.I P 2001 4ème Tr P 835. [25] - القرار عدد 1373 صادر عن مجلس الأمن الدولي في 28 سبتمبر 2001. [26] - مقدمة التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية للعام 2002 تحت عنوان "العدل وليس الانتقام" I وII. [27] - مداولات مجلس النواب عدد 6 ليوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2003 ص 135.
[29] - جرائم الإرهاب في القانون الجنائي: الأستاذ بلقاسم كريد: المساعد الأول للرئيس العام بمحكمة الاستئناف بصفاقس. [30] - مرجع سابق: أ. "بلقاسم كريد".